يتم تحديث المنشور
الدراسات
ديسمبر 2022

أنثروبولوجيا جماهير كرة القدم وأهازيج الملاعب

تعتبر الرياضة بصفة عامة، وكرة القدم بصفة خاصة، من أكثر الألعاب شعبية في العالم، وتجاوزت حدود الترفيه، حتى تحولت إلى سوق اجتماعية واقتصادية وسياسية، وأصبحت قوة ناعمة تسهم في نشر الثقافة وترسيخ الهوية في أنحاء العالم بشكل أسرع وأكثر تأثيرًا وأقل تكلفة من أي مبادرات أخرى، وقد أجريت حولها دراسات كثيرة.

وتعتبر المدرجات أو فئة المشجعين أحد أهم صنّاع اللعبة، وأصبحت موضوعًا اجتماعيًّا مستقلًا بسبب ازدياد دورها الرياضي والاجتماعي والسياسي أيضًا، وأضحت أهم أركان الرهانات الرياضية، مما أنشأ من داخلها رابطة للمشجعين، والألتراس (التشجيع المتعصب والمنظم)، ولكل منهما ثقافة وسلوك وطقوس خاصة.

وتكمن أهمية الدراسات الاجتماعية للجماهير في الملاعب، في مصفوفة قيم: الحب والولاء والانضباط والوعي بالإرادة والانصهار في الجماعة والأهداف المشتركة والوفاء والمؤازرة والترفيه وأساليب قضاء أوقات الفراغ. ويقابلها مصفوفة من القيم المضادة، كالتعصب والعنصرية والعنف والشغب والإيذاء، وفي الملاعب قوانين اجتماعية ومزاج عام يفرض على المشجعين أنواعًا من السلوك تحدد قيمها.

وقد تطورت كرة القدم السعودية من التنظيم البسيط إلى المعقد بالتجانس الكبير بين كل من: تصميم الملاعب، والحضور الجماهيري، وسعة المدرجات، وأنواع الأهازيج؛ حيث بدأت الجماهير بالفرجة على الأرض، وتطورت إلى مجلس الجمهور، ثم رابطة المشجعين، وانتهت بدخولها ضمن هيكلة إدارات الأندية وحوكمتها.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

مقدمة

تعتبر الرياضة بصفة عامة، وكرة القدم بصفة خاصة، من أكثر الألعاب شعبية في العالم، وتجاوزت حدود الترفيه، حتى تحولت إلى سوق اجتماعية واقتصادية وسياسية، وأصبحت قوة ناعمة تسهم في نشر الثقافة وترسيخ الهوية في أنحاء العالم بشكل أسرع وأكثر تأثيرًا وأقل تكلفة من أي مبادرات أخرى، وقد أجريت حولها دراسات كثيرة.

وتعتبر المدرجات أو فئة المشجعين أحد أهم صنّاع اللعبة، وأصبحت موضوعًا اجتماعيًّا مستقلًا بسبب ازدياد دورها الرياضي والاجتماعي والسياسي أيضًا، وأضحت أهم أركان الرهانات الرياضية، مما أنشأ من داخلها رابطة للمشجعين، والألتراس (التشجيع المتعصب والمنظم)، ولكل منهما ثقافة وسلوك وطقوس خاصة.

وتكمن أهمية الدراسات الاجتماعية للجماهير في الملاعب، في مصفوفة قيم: الحب والولاء والانضباط والوعي بالإرادة والانصهار في الجماعة والأهداف المشتركة والوفاء والمؤازرة والترفيه وأساليب قضاء أوقات الفراغ. ويقابلها مصفوفة من القيم المضادة، كالتعصب والعنصرية والعنف والشغب والإيذاء، وفي الملاعب قوانين اجتماعية ومزاج عام يفرض على المشجعين أنواعًا من السلوك تحدد قيمها.

ورغم أهمية دراسة ظاهرة الجماهير في المدرجات في كرة القدم، إلا أنها ما تزال من أقل الموضوعات اهتمامًا بها، رغم أنها الأكثر ثقافة وصناعة وتفاعلا اجتماعيًّا وتاريخًا رياضيًّا. وبالبحث عن الدراسات السابقة حول التشجيع، وجد أنها قليلة، وما يكتب عنها يركز غالبًا على قيم التعصب الرياضي، مما يجعلها في موضع إدانة، ويخفي ظاهرة اجتماعية لها هيمنة كبيرة في الملعب.

ونظرًا لندرة الدراسات الاجتماعية حول السلوك الاجتماعي للجماهير في مدرجات ملاعب كرة القدم وتطور أهازيجها، ونظرًا لأن ظاهرة التشجيع تمرُّ بتحولات كبيرة وتتطور بسرعة، وشملتها العولمة؛ فقد ركَّز هذا البحث على المنهج الوصفي، الذي يهدف إلى التعرف على الواقع وأصوله التاريخية، وعلى المنهج التحليلي لمحاولة فهم ظاهرة جماهير كرة القدم والأهازيج وأسباب حدوثها وتطورها.

وقد ركزت محاور هذا البحث على دراسة الجماهير في ملاعب كرة القدم، بوصفهم ظاهرة اجتماعية، وقوة تأثير صامت على اللاعبين والحكام؛ ولذلك جاءت كثير من المحاور مبتكرة وجديدة الطرح في الثقافة الرياضية، وهي بدراسة ظاهرة المشجعين من زاويتين أساسيتين، هما:

الأول: ظاهرة التشجيع في كرة القدم والجماهير في المدرجات، وتشمل: التشجيع المحترف، والتشجيع المتعصب، والتشجيع الصامت، ودخول المرأة إلى المدرجات.

الثاني: ظاهرة أهازيج رابطة المشجعين، وتحولاتها التاريخية.

وأهم محاور البحث هي:

أولًا: أسطوريات كرة القدم

ثانيًا: أنثروبولوجيا جماهير كرة القدم

- عولمة التشجيع الرياضي

- الجماهير

- سطوة الجماهير في الملعب

- التعصب الرياضي

ثالثًا: أهازيج الملاعب

المرحلة الأولى: الجماهير على الأرض

المرحلة الثانية: بواكير ثقافة التشجيع

المرحلة الثالثة: رابطة المشجعين

المرحلة الرابعة: الألتراس

رابعًا: الخطاب الاجتماعي في المدرجات

خامسًا: الثقافة العالمية في الأهازيج والفاعلون الجدد

سادسًا: ثقافة الرياضة النسائية

أولًا: أسطوريات كرة القدم

يؤكد الفيلسوف رولان بارت في "أسطوريات: أساطير الحياة اليومية" بأن الأساطير قد نجدها في الحياة اليومية المعاصرة، وليس بالضرورة أن تكون قديمة وخرافية، وحلل موقف جمهور المصارعة وتناقض مشاعرهم مع منطقهم في اللحظات الحاسمة؛ ولذلك يمكن أن تحمل المباريات، مثل كرة القدم، روح الأساطير، من حيث عالم الصيد وهجمات القبائل القديمة، كما سيأتي.

وتتسم مباريات كرة القدم بأنها تسعى لتقديم أفضل ما لديها للجماهير، وكلما زاد التفاعل، زادت معها الإثارة وحبس الأنفاس، ولا يعلم اللاعبون ولا المشجعون مصير التسعين دقيقة القادمة، وهي مشحونة بالمشاعر المتناقضة والاحتجاج المتكرر على أي سلوك في الملعب يخالف توقعاتهم، وهذا أحد عناصر الدهشة والمتعة المحفزة على الفرجة.

وقد تحولت كرة القدم إلى إيديولوجيا سياسية وثقافية، وسوق اقتصادية، وتحولت شعارات الأندية إلى علامات تجارية، ويقدم اللاعبون أنفسهم ويستعرضون مهاراتهم في الملعب، بهدف انتزاع إعجاب الجماهير واعترافها بمهاراتهم. كما برز من بين الجماهير ظاهرة الألتراس، المعروفة بحبها الشديد لفريقها، وعدم انصياعها لتعليمات إدارة النادي، وتستخدم أهازيج سياسية، وكأنها منطقة حرة داخل الملعب.

وفي الجانب الأسطوري للرياضة، فإن بعض الدراسات الأنثروبولوجية ترى أن ظاهرة كرة القدم مستمدة من فكرة غزو القبائل، فقد نشأت فكرة المباريات من محاكاة وتقليد لطقوس الظواهر الأنثروبولوجية في المجتمعات القديمة باستخدام الرموز الاجتماعية فيها، حيث كانت القبائل يُغير بعضها على بعض، وتستحوذ على الإبل أو الأغنام أو الحيوانات المقدسة عند الآخرين، وكل قبيلة معرضة للهجوم، كما أنها مستعدة للهجوم على غيرها، وتكتسب القبائل مكانتها الاجتماعية والاقتصادية من قوتها بين القبائل الأخرى، وبداخل كل قبيلة شيخ وفارس ومقاتلون ومدافعون يحمون ظهورهم أو يؤمنون الانسحاب.

وإسقاطات تفسير كرة القدم بالأساطير، تعتبر بمثابة دراسات أنثروبولوجيا تبحث في الأفكار والممارسات الرمزية المشتركة بين الإنسان القديم والرياضة الحديثة، ولا تحدد سبب نشأة كرة القدم، وإن كانت الرموز الاجتماعية تنطبق على كثير من الرياضات المشابهة لها، واقتبست جميع عناصر حروب قبائل البادية وأسقطتها رمزيًّا على اللعبة، حيث إن الأندية تحل محل القبيلة، وأتباعها هم جماهيرها، والشيخ هو رئيس النادي، والفارس هو الكابتن، ويتوزع الفريق في الملعب كما يتوزع المقاتلون في ساحة الحرب، والمكاسب نقاط بدلاً من الحيوانات النفيسة، والمكانة الاجتماعية والاقتصادية تتحقق من جمع أكبر قدر من النقاط، وإذا كانت شهرة الفارس لمن يقتل أكثر في الحرب، فإن شهرة اللاعب لمن يسجل أهدافًا أكثر أو يظهر مهارات في موقعه. كما أن مجتمع القبائل يتابع أخبار اقتتال القبائل، وتحرص كل قبيلة مقاتلة على أن ينتشر عنها أخبار بطولية.

إضافة إلى وجود المعاني الرمزية المتمثلة في المكانة الاجتماعية والشرف والهيبة للطرف المنتصر. وأن ساحات القتال هي المنجم الذي يولد الفرسان والشجعان، ويماثله فرسان الملعب.

ويتم أيضًا الاحتفاظ بالعديد من العناصر الأخرى لتسلسل الصيد البدائي في طقوس كرة القدم. هناك استراتيجية يجب مناقشتها قبل الحدث والتكتيكات التي يجب استخدامها أثناء ذلك. كذلك التعاون النشط مطلوب بين المشاركين إذا كان القتل الرمزي يجب أن يتم بنجاح. وهناك خطر التعرض لإصابة جسدية خطيرة. فالمطاردة بعد الكرة تتطلب لياقة عالية. وتتطلب سرعة اللعبة مستوى عاليًا من التركيز والجري دون توقف على مدى فترة طويلة من الوقت وتطلب قدرة كبيرة على التحمل. ويتم التحكم في الكرة بشكل مثالي من خلال تطوير مهارات خاصة وعدم القدرة على التنبؤ بتسلسل الحركة، ويعزز تخيل النوع الذي يمكن تحويله على الفور إلى حركات جسدية، قوة كبيرة مطلوبة لتنفيذ هذه الحركات بشكل فعال، وهناك حاجة إلى أعصاب باردة في لحظات التوتر الحاد. وقبل كل شيء، يجب أن يتمتع كل فرد برؤية ممتازة وقدرة على التصويب بدقة، خاصة في لحظات الذروة عند التسديد على فوهة المرمى.

إن القدرة على التصويب تعني امتلاك مهارات خاصة، ويحرص اللاعب على تنميتها، لوجود جمهور متذوق لها، ويمنحها الاعتراف الشعبي، مما سوف ينعكس على مكانة اللاعب في المجتمع، وبالتالي تزداد فرص مكاسبه المادية والمالية. ومن ثم؛ فإن دور الجماهير واعترافهم محور أساسي عبر التاريخ حتى الآن، وإن جاء مسكوتًا عنه؛ ويوجد ثلاثة أنواع من الجماهير الصامتة، هي: جمهور الفريق، الذي يمنح الدعم والتحريض، وجمهور الخصم الذي يحبط خصومه، والجمهور المحايد الذي يراقب المشهد ليحدد مصالحه.

وتشير بعض المصادر إلى أن نموذج اقتتال القبائل مقارنة بكرة القدم كان معروفًا في الصين أيضًا؛ إذ أكدت الروايات الصينية فيما قبل الميلاد، وقبل أن تأخذ كرة القدم شكلها الحالي، أنها كانت وسيلة تحدٍ بين القبائل المتناحرة؛ فالفريق المهزوم كان يُقابل بالسخط والجلد من قِبَل أنصاره لتخاذله. بالمقابل، كان الفريق المنتصر يكافأ بالولائم ودق طبول النصر.

ومما يؤيد فرضية المقارنات بين التاريخ البدائي والواقع الرياضي، أن كثيرًا من الرموز الاجتماعية والمعاني التي تمنح لطقوس اللعبة، يمكن العثور عليها في رياضات المصارعة، وهي النموذج الأكثر وضوحًا، وفي رياضة السلة والطائرة والجري والرمي وغيرها. والقاسم المشترك بين الإنسان البدائي وإنسان اليوم يكمن في الرغبة الذاتية في الترفيه عن الذات، وتمضية أوقات الفراغ في النشاط البدني والذهني.

من أبرز شواهد انتقال القيم السلبية إلى قيم مقبولة نوعًا ما، ما نراه في قيم الولاء والشعور بالانتماء، بل والتعصب؛ حيث انتقلت من القبائل إلى الأندية؛ وذلك لأن الإنسان محتاج بطبيعته إلى انتماء جمعي يحتويه، بحيث يكون أكبر من الأسرة وأصغر من الدولة، هذا لا يمنحه إلا قبيلة أو نادٍ رياضي.

وبعد سيادة القانون والدولة، تحول إلى انتماء رمزي بالتشجيع الرياضي وتفريغ طاقته بالتعصب المقنن الذي لا يمس العرق ولا الجنس.

ثانيًا: أنثروبولوجيا جماهير كرة القدم

عولمة التشجيع الرياضي

يمثل بروز العولمة في بداية التسعينيات الميلادية، دخول العالم في عصر جديد، يفرض فيه اقتصاد عالمي، وثقافة معولمة، وذلك على فرض أن قيم الديموقراطية والرأسمالية، هي المسار الوحيد للعالم بعد سقوط الشيوعية، ويعكس كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" للفيلسوف فرانسيس فوكو ياما هذا الاتجاه بوضوح.

ونتيجة لظاهرة فرض عولمة كل شيء على شعوب العالم، بقوة تأثير التقنية والإعلام العالمي، فقد دخلت العولمة أيضًا مجال الرياضة، وأصبحت الأندية أصولًا اقتصادية، يمكن بيع منتجاتها من الملابس الرياضية والشعارات وافتتاح متاجر لها، وبيع بعض ممتلكاتها من ملاعب ولاعبين، أو تأجيرها، كما دخلت العولمة مجال التشجيع الرياضي، وبرزت معها أشكال من التشجيع المناهض لرابطة المشجعين، وأهازيج فنية، مخطط لها مسبقًا، وفرضت بعض أشكال العولمة قيمها على التشجيع في المجتمع السعودي.

كما تحول رؤساء رابطة المشجعين في الأندية إلى خبراء في إدارة المدرجات، وأدخلتهم العولمة في البيئة الاقتصادية، والانتقال من التشجيع بدافع الحب فقط، إلى التشجيع الملزم بعقد قانوني، ومن نماذج المفاوضات، ما تناقلته بعض الصحف حول خبر تفاوض مجلس مشجعي نادي الهلال مع رئيس رابطة مشجعي الأنصار وأحد سابقًا مصطفى الشاوش (الدلش) للانضمام إلى رابطة مشجعي الهلال (يوليو 2008).

وعزَّزت قيم العولمة من مأسسة كرة القدم، وألزمت اللاعبين والإداريين بالتصريحات للإعلام وتلقي أسئلتهم بعد كل مباراة، لتزويد الجماهير بالمعلومات وتبرير الأحداث لهم، ووضعهم في المشهد الرياضي، بوصفهم شريكًا للنادي وصانع بهجة وإثارة، وتكون كثير من التصريحات في مؤتمرات مصغرة، وخلفها لوحات إعلانية، كما برزت ظاهرة مجالس التحليل الرياضي في كثير من القنوات، إما لتعبئة الجماهير قبل المباريات، وإما استفزازها ببعض الحوارات بين وجهات نظر متناقضة.

كان التشجيع الرياضي في المجتمع السعودي ذكوريًّا ومرتبطًا بفئة الشباب في الغالب، وإذا وجد فئات غيرهم؛ فإن صوتهم لا يظهر أمام الصورة الذهنية السائدة، أما في قيم عولمة التشجيع، فقد شمل التشجيع جميع فئات المجتمع، وبمختلف الأعمار، وامتلأت مدرجات الملاعب بالرجال والنساء، والأطفال وكبار السن، سواء حضورًا أو بزي التشجيع والانخراط في رابطة المشجعين.

وبعد أن كان الجمهور السعودي يشجع الأندية المحلية، صار يشجع الأندية العالمية، ويتابع أخبار الدوري الأوروبي، وأصبح لكل مشجع سعودي، نادٍ محلي ونادٍ عالمي، وأسهمت القنوات الفضائية الرياضية في تعميق ولاء المشجع السعودي للأندية الأوروبية.

كما أن التفسيرات الاجتماعية لظاهرة التشجيع تؤكد على رسوخ هوية الأفراد في التشجيع؛ وذلك لأنها تعود إلى: التأثيرات التي تدفعهم إلى هذا الاتجاه. والشعور بالانتماء والارتباط من خلال مجموعة من الناس. كما يصبح للمشجع هوية قوية بانتمائه للفريق الذي يشجعه، لأن الفريق يمثل امتدادًا لمفهومهم عن ذاتهم.

وتؤكد هذه التحولات على أن مستقبل الرياضة والتشجيع الرياضي في السعودية، سوف يتحول إلى سوق اقتصادية ضخمة، ومن المتوقع أن يحقق رؤساء رابطة الأندية شهرة وشعبية لا تقل عن شهرة اللاعبين ورؤساء الأندية، وأن ينشأ سوق فني لكتابة كلمات الأهازيج وتلحينها ومعاهد للتدريب على أدائها، وأزياء موحدة خاصة برابطة المشجعين.

مزاج الجماهير والحشود

لكل جماهير مزاج عام يفرضه عليها الهدف الذي تجمعت من أجله، وينصهر فيها الأفراد ضمن حشود الجماهير، ويهتفون أو يحتجون أو يصمتون بقوة مزاج الحشد الذي اجتمعوا من أجله.

ومن يلاحظ الجماهير في الملاعب، ويقارنها بالجماهير في مهرجان "مزاين الإبل" مثلًا، والجماهير التي تحضر حفلات فنية، أو حتى الجماهير التي تحضر مناسبة احتفال كبير؛ فإن كثيرًا من الجماهير قد يكون عنصرًا فاعلًا في جميع أشكال هذه الجماهير أو بعضها، لكن يتغير سلوكه ومزاجه بحسب المزاج العام الذي يكون فيه، مما يعني أن نوع التكتل الجماهيري هو الذي يفرض سلوكه على الأفراد المندمجين داخله، رغم أنها جاءت للمؤازرة والتشجيع طوال الوقت وإثارة الحماس والتفاعل.

وبالتالي؛ فإن تنظيم الأفراد يبدأ من تنظيم الحشود، بمعنى أن العملية معكوسة في حالة الحشود؛ لأن التنظيم يبدأ من الفرد إلى الجماعة في كثير من الحالات، إلا في حالة الحشود؛ فإنه يبدأ من الأكثر إلى الأقل.

ويرى غوستاف لوبون أن مصطلح الجماهير في معناه العادي يعني تجمعًا لمجموعة من البشر، بصفتهم الشمولية، مهما كانت هويتهم القومية أو مهنتهم أو جنسهم أو الظروف التي جمعتهم. ولكن المعنى النفسي يرى أن كل تكتل بشري يمكن أن يمتلك خصائص جديدة مختلفة عن خصائص كل فرد يشكل هذا التكتل. ويؤيد هذا التعريف مبدأ انصهار الأفراد في المجموع، وتحركهم بقوة الفكرة التي تجمعهم.

ولأهمية الحضور الجماهيري في كل مناسبة، ودورها الكبير في منح القيمة المعنوية لكل لعبة أو فنون تحضرها، فقد حظيت باهتمام سياسي واقتصادي وإعلامي لتوجيهها وإدارتها.

وقد برزت ظاهرة الجماهير مع انتشار المسرح والفنون والرياضة بشكل كبير في أواخر القرن الماضي، عندما ظهرت وسائل الإعلام، وأصبحت تبث أخبار الرياضة عبر الصحف والإذاعات والبث المرئي، وتحث الجماهير على الحضور والتفاعل معها، وقد سميت هذه المرحلة بالجماهيرية لأن هذه الوسائل استطاعت الوصول إلى سمع ومرأى الجماهير، وحولت اهتمامهم نحو الرياضة، وأصبحت العلاقة وثيقة بين الرياضة والإعلام والجماهير.

وقد كان القرن العشرون مصنعًا سياسيًا وثقافيًا لمحاربة العنصرية والتعصب القبلي والعرقي والمناطقي، وملء الفراغ بهوية جديدة تتمثل في التعصب الرياضي؛ لأنه أخف ضررًا من التعصبات العرقية؛ حيث يمنح الانتماء للأندية هوية تسهم في تعزيز الهوية الوطنية، وتذيب جميع الهويات التعصبية داخلها.

ويرى لارسون أن المشاهدين يشكلون جزءًا مكملاً من الطبيعة الأصلية للرياضة؛ لأنهم يقدمون المناخ الاجتماعي المباشر للفرد الممارس للرياضة، ويجزم الباحث كراتي بأن الرياضي لا يتمكن من الأداء الجيد في المنافسة في غيبة المشاهدين، ويشير إلى أنه في عصرنا هذا، أصبح حضور المشاهدين وتأثيراتهم واضحة للجميع.

واللاعب في الواقع يلعب مباراتين في وقت واحد: المباراة الأولى هي المادية الملموسة داخل أرض الملعب، وهي اللعب مع فريقه ضد فريق الخصم، والمباراة الثانية معنوية غير ملموسة، وهي تنافسه مع زملائه لكسب تأييد جمهور ناديهم واعترافهم بمهاراتهم، وإذا سجل اللاعب هدفًا، فإنه ينطلق لا شعوريًّا نحو الجمهور ليتلقى تحيتهم وترحيبهم بإنجازه.

ويمكن استنتاج ملاحظة اجتماعية من أهداف التسعينيات والثمانينيات في الملاعب السعودية؛ حيث ينطلق اللاعب الذي سجل الهدف نحو دكة الاحتياط لاحتضان زملائه والطاقم الفني والإداري، وهو احتضان ينطوي في الغالب على تأكيد الإعجاب والاعتراف باللاعب الذي حقق إنجازًا لفريقه؛ وذلك لأن كسب اعتراف المدرب ورئيس النادي ضمان لاستمرار اللاعب في الفريق الرئيس.

ولا نعرف اللحظة التي تحول فيها تعبير اللاعب عن الفرح من التوجه إلى دكة الاحتياط، إلى التوجه للجمهور لممارسة رقصته الخاصة أمامهم، ولكنها ظاهرة مستوردة من الملاعب العالمية، إلا أنها تنطوي على إثبات الذات وكسب الاعتراف منهم، على أنهم قوة جديدة تفرض صوتها على النادي وتلفت انتباه الأندية الأخرى لإمكانية رفع سعره التعاقدي، كما أن الفرحة مع الجمهور تمنح اللاعب إشباعًا عاطفيًّا بالبهجة، وإتاحة الفرصة له لممارسة طقوس تسجيل الهدف باستخدام رمز الانتصار الذي يمثل هويته الشخصية.

وقد استطاع الجمهور نقل بعض رقصات اللاعبين للمجتمع، وهي رموز معنوية ولها أبعاد اجتماعية، مثل: إجراء حركة دائرية بالإصبع على منتصف الأنف، بشكل يرمز لأخذ الشيء رغمًا عن أنوف المعارضين، ومثل حركة ذر الملح على اللحم بطريقة مستوحاة من طباخ عالمي، ومثل عملية الخلط، وهي مستوحاة من لاعب سلة أمريكي عالمي. مما يعني أن التميز بحركة تهدف لاستفزاز الخصم، لقيت رواجًا جماهيريًّا.

ويمكن تقسيم الجماهير الرياضية قسمين، هما: مادي، ويتمثل في الحضور الجسدي للملاعب، ويشكل هؤلاء التأثير الكبير في الهتاف المستمر والتحفيز لبذل الجهد والكثافة التي تملأ المدرجات.

والثاني معنوي، ويتمثل في إدراك الانتشار الجماهيري الشعبي والسمعة والتأثير، سواء بحضورهم الصامت داخل الملعب أو خارجه، ويوجد أندية سعودية لها جماهيرية عربية عريضة، وهي تلعب بإدراك نفسي وقوة معنوية يدفعها الشعور بهذه الجماهيرية والانتشار.

التعصب الرياضي

لم يسلم تاريخ الرياضة عبر العصور اﻟﻤﺨتلفة من بعض شبهات العنف والشغب، ويرجع الفيلسوف سارتر المنافسات الرياضية إلى البناء الجدلي للجماعات البشرية وأدوار الأفراد، ويستخلص من خلال تحليله أن الصراع في الملاعب الرياضية يتناسب مع تركيبة الجماعات البشرية والنظام الاجتماعي الذي يمثله مهما بدا ذلك متناقضًا.

ولقد نعت كونراد لورينز Konrard Lorenz الرياضة بقوله: إنها أحد الأشكال الطقوسية المتميزة لمعركة أعدتها الثقافة الإنسانية، وفي موقع آخر ذكر أن العدوانية ما هي إلا رغبة أصيلة في الإنسان لبقاء النوع، وأن الرياضة نوع من التعبير النفسي اللاشعوري عن هذه الرغبة، كما ذكر جودهارت، وشاتاواي Goodhart & Chataway  عام ١٩٦٨ أن الرياضة تعتبر حرباً من دون أسلحة، وقد كان هذا عنوانًا لكتابهما.

والتعصب سمة بارزة في شخصية الإنسان، ولكن نقلها من التعصب للعرق إلى التعصب الرياضي، يأتي في سياق إيجابي في حال تركزت على الانتماء، دون ممارسة الإيذاء الثقافي المتمثل في الحط من مكانة الخصم. وقد دخل التعصب الرياضي إلى البيوت ومكاتب العمل والاستراحات، وصارت موضوعًا اجتماعيًّا مصاحبًا لكل مباراة.

يقال: كلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، يتم استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب؛ وذلك لأن كرة القدم لم تعد لعبة ورياضة تسود فيها الروح الرياضية ومؤسسة على قيم المحبة والتعارف والتنافس الشريف، بل أصبحت صناعة وتجارة وسياسة، وكرة القدم لها جاذبية سحرية، وهذا سر قوتها وقيمتها، لدرجة أن إدواردو غاليانو اعتبرها الديانة الجديدة، وبعض عشاق ومشجعي اللاعب الأرجنتيني ماردونا قاموا ببناء كنيسة المارادونية التي تعرف أيضاً باسم كنيسة مارادونا، هي كنيسة تم تكريسها في مدينة روساريو بالأرجنتين تقديسًا لاسم ماردونا حيت اعتبر صورة من صور الرب على الأرض، وقد أسست هذه الكنيسة في 30 أكتوبر 1998، تخليدًا لذكرى ميلاه.

وتمثل هذه التفاعلات بين الجمهور واللاعبين والمجتمع أحد أشكال التذوق الرياضي العميق، وقدرة الجمهور على فرض هويته في المجتمع دون انتظار توجيه، وتكررت حادثة تكريم مارادونا عندما انتقل إلى نادي نابولي الإيطالي، وازدهرت المدينة اقتصاديًّا واشتهرت عالميًّا بمقدمه، وصارت قبلة للإعلاميين والجماهير، وأحدث وظائف كثيرة، دفنت فقر المدينة. والقاسم المشترك بين الأديان وتقدير اللاعب الموهوب يكمن في القداسة العليا وقوة التأثير في النفوس والاستعداد للخضوع مقابل السعادة التي حصلوا عليها.

وتشير دراسة إلى وجود مظاهر التعصب واضحة في سلوك الجماهير، منها: مظاهر الغضب، وخاصة إذا ما شعرت الجماهير أن فريقها مهدد بالفشل. وعامل الخوف الذي يعتبر حالة موقفية تحددها ظروف المباراة وأهميتها وقوة الفريق المنافس. والتعصب، حيث يميل المتعصب للعدوان والعنف تجاه الآخرين، بسبب جمود الفكر والتأثر بسهولة بأصحاب مراكز السلطة والإعلام وسهولة الانسياق وراء أفراد الجماعة المنتمي إليها.

ويلحظ توسع حالات الغضب والخوف والتعصب في السنوات الأخيرة وامتدادها لتشمل الحكم، إذا خذلها، وفريقها إذا أخفق، وفريق الخصم، وربما جمهوره، وقد تشمل اتحاد كرة القدم والمعلقين وكل من له علاقة بالمباراة. وقد تحمل هذه الحالة معاني إنكار الواقع أو الوعي المنقوص من خلال عدم القدرة على إدارة الغضب والخوف والتعصب.

ويكشف التحليل الكيفي للتغريدات الرياضية، أن التعصُّب الرياضي لدى المغرِّدين وصل إلى قيامهم بإعادة تحرير المواد الإعلامية التي تتمُّ مشاركتها في الهاشتاق (الوسم)، من صور ومقاطع فيديو، من خلال برامج كالفوتوشوب وغيره، لإضافة تأثيرات عليها، مثل تسجيل أصوات، وتركيب فلاتر وغيرها، بهدف السخرية من الأندية الرياضية والجماهير واللاعبين والإعلاميين، حيث يتمّ تشارك الصور ومقاطع الفيديو المعدَّلة داخل الهاشتاق، وتلقى تأييدًا أو معارضة كبيرة، بحسب انتماءات المغرِّدين الرياضية.

وبتحليل أساليب وطرق التفاعل التي تتمُّ بين المغرِّدين في الهاشتاق، تمثلت أساليبُ التفاعل في أربعة أشكال: حيث كان الشكل الأكثر انتشارًا للتفاعل بين المغردين هو النقاش من خلال المعلومات بنسبة 34%، تلاه الجدال بين وجهات النظر المختلفة بنسبة 31%، ثم المزْج بين المعلومات ووجهات النظر بنسبة 25%، وأخيرًا تبادل السِّباب والشتائم فقط دون تقديم معلومات أو وجهات نظر بنسبة 10%.

ويلحظ أن منصة التواصل الاجتماعي تويتر استطاعت تكوين تجمعات جماهيرية من خلال هاشتاق يجتمع حوله المغردون لطرح كل ما يمكن أن يقال حول قضية محددة، بينما كانت تجمعات الجماهير قبلها تكون في منتديات رياضية خاصة بالتحليل والتوسع في التبريرات، وقد كادت أن تختفي بسبب ظهور تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تعتمد فلسفتها على ضغط الفكرة بكلمات محدودة.

سطوة الجماهير في الملعب

يوجد منظومة من الطقوس الاجتماعية المتفق عليها ضمنيًّا بين اللاعبين والاحتياط والجمهور؛ حيث إنه يتعين على اللاعب بذل الجهد والاشتباك مع الخصم حتى لا يلام في انكشاف خانته في الملعب، ثم تبدأ معركة رمزية تنطوي على قيم شجاعة مثل: امتلاك الكرة لأطول وقت وحسن التصرف بها والمخاطرة بالمهارات دون فقدانها من الخصم، ويقابلها قيم إهانة مثل: تمرير الكرة بين قدمي اللاعب، وتسمى "كباري"، أو تكرار المراوغة به، وتسمى "تسحيب".

كما يتعين على الحكم أن يركض طوال الوقت، ويكون قريبًا من الحدث بمسافة تقاس بالأمتار القليلة، وبالتالي، فإن التسعين دقيقة هي معركة الركض خشية اللوم.

وقد برزت ظاهرة إلزام الحكم ضمنيًّا ببذل الجهد بعد الضغط الجماهيري والإعلامي على نقد تمركزه؛ حيث تظهر مقاطع فيديو مباريات الثمانينيات والتسعينيات أن الحكم يلقي بجزء من العبء على رجال الخط، ويمكن أن يطلق صافرته من مسافة تقاس بأكثر من عشرة أمتار.

ويبدو أن جزءًا من بذل الجهد من الحكم جاء نتيجة التطور في حيل اللاعبين في الإيذاء أثناء احتكاك اللاعبين، وفي زيادة سطوة الجماهير على الحكام، مما جعل من شهرة الحكام الشعبية توازي شهرة اللاعبين، وقد أسهمت تقنية الفار في رفع مستويات الثقة في التحكيم.

ويتولى الجمهور في أثناء المباراة دور التقييم الفوري من خلال التشجيع الجماعي المحفز، أو الاستنكار على أحد اللاعبين، أو على الحكم إذا أخلَّ بمهامه، ويتولى هذه المهمة رابطة المشجعين الذين يكتفون بصرخات الاحتجاج، أو ينتجون أهزوجة عاجلة تدين سلوك الحكم أو أحد اللاعبين أو الفريق كله في حال تكرار الأخطاء، إضافة إلى الصراخ المنفرد لبعض الجماهير الذين تصل أصواتهم للملعب.

ومما يؤكد على السطوة المعنوية للجماهير في الملعب، أنه أجريت دراسات اجتماعية تحليلية لسلوك حراس المرمى أثناء التصدي لضربات الجزاء، ولوحظ أنه لو بقي الحارس في مكانه ولم يتحرك لصد أكبر كمية من ضربات الجزاء، ولكنه مضطر للتحرك وإظهار مهاراته في السباحة نحو الكرة، لأنه لو كانت الكرة يمينًا أو يسارًا وهو واقف يتفرج، لتلقى لوم الجمهور واستخفافهم بمظهره البائس، وهو يتفرج على الكرة.

ومن الناحية الفيزيائية، فالحارس ليس لديه الفرصة للتأكد من مسار انطلاق الكرة، ولذلك يقفز بحسب توقعاته وخبراته، ووجد في نتائج الدراسة أن 57% من الحراس يقفزون إلى اليسار، و41% يقفزون إلى اليمين، و2% فقط يبقون في أماكنهم وسط المرمى. وأظهر تحليل ضربات الجزاء أن ركلها في الوسط محفوف بالمخاطر من الناحية المنطقية، وتنطوي على فقدان الحس الكروي السليم، ولكن احتمالية دخولها المرمى أعلى بنسبة 7% من التسديد في الزوايا؛ لأن الحارس لا يبقى في مكانه غالبًا.

وتبدو الفلسفة الاجتماعية أكثر حضورًا من الفلسفة الفنية؛ وذلك لأن الحارس لو بقي في مكانه وصد ضربة الجزاء، فسوف يقع اللاعب في حرج شديد ومثير للشفقة أمام الجماهير، بينما لو بقي الحارس في مكانه وكانت التسديدة في أحد الزوايا، فسوف يقع الحارس في حرج شديد ومثير للشفقة، وبالتالي يغامر اللاعب بالضرب في الزوايا، ويغامر الحارس بالقفز في الزوايا من أجل تجنب اللوم من المدرب ومن غضب الجماهير.

وهذا السلوك الكروي يؤكد أن سطوة الجماهير ما تزال مضمرة في سلوك اللاعبين والحراس والحكام، وأن كثيرًا من خيارات اللعب المنطقية ناتجة من استراتيجية انتزاع الإعجاب أو تجنب اللوم من الجمهور، حتى وإن لم تكن مكشوفة، ومن هنا يتضح دور الجمهور العميق في نفسية اللاعبين والإداريين والحكام. وقد أصبح صوت الجماهير الآن أقرب من خلال هتاف المدرجات أو التفاعل الآني بين حسابات اللاعبين والجمهور في تطبيقات التواصل الاجتماعي.

ثالثًا: أهازيج الملاعب

يوجد علاقة طردية بين كل من: أعداد الجماهير في الملعب، وتطور أهازيج التشجيع، والتنظيم الإداري، ويظهر من تحليل مجموعة من الصور ومقاطع الفيديو لحضور الجماهير للمباريات منذ الستينيات الميلادية (1386هـ/ 1966م) وما بعد، أنها تتطور بالانتقال من التنظيم البسيط إلى المعقد، ويمكن تصور تطورها التاريخي كما يلي:

المرحلة الأولى: الجماهير على الأرض

كان جمهور المتفرجين يقفون على حافة خط منتصف الملعب، ويبقون واقفين وصامتين حتى نهاية المباراة. ثم صاروا يحضرون جلوسًا ومعهم سجادة للجلوس والقهوة والشاي؛ حيث كانت المباريات تقام داخل أرض واسعة تتسع للملعب وللجمهور ومحاطة بسور، يسمى "حوش".

ويروي أحد الكتاب الصحفيين المعاصرين لبواكير التشجيع في مدينة الرياض، أنه في بداية تأسيس الأندية في بلادنا والتي كانت ملاعبها ترابية وليس بها مكان لجلوس الجماهير، كان الكثير من المشجعين يحضر للاستمتاع بالمباريات، فقد كان البعض يحضر بساطًا ويفرشه بمقربة من الملعب، ويجلس معه عدد من أصدقائه، ويحضر معه "ترمس" شاي، وقد يتناولون بعض المكسرات لأكلها خلال مشاهدة المباراة، بينما يفضل البعض مشاهدتها بالجلوس في سياراتهم.

ولم تظهر ثقافة التشجيع في هذه المرحلة، وإنما يكتفي اللاعبين بحضور الجماهير كمحفز لبذل الجهد ونيل إعجابهم، وأن يكونوا حديث الشارع.

ويبدو أن هذا السلوك الجماهيري العفوي جاء نتيجة عدم وجود نموذج جماهيري يحتذى به، ولأن ظاهرة التشجيع في الملاعب السعودية ما تزال في بدايتها، وبالتالي، فإن جانبًا من حضور المباريات كان لدوافع الترفيه عن النفس وقضاء أوقات الفراغ، في زمن يخلو من الفضاءات العامة الترفيهية الكافية.

يؤيد هذا الرأي أن أندية المملكة الكبيرة تأسست تباعًا ما بين عامي 1927- 1957م. وقد بدأ الدوري برعاية وزارة الداخلية عام 1951م، ثم أعيد تنظيمه عام 1957م بشعار "الدوري السعودي العام على كأس الملك"، وكانت بعض المواسم الرياضية بنظام خروج المغلوب، وبعضها بنظام المناطق، مما يعني أن تنظيم الدوري لم يتخذ طابع الاستقرار حتى عام 1966م، وهو العام الذي كانت الجماهير تحضر للفرجة وعلى حافة خط الملعب.

وتأسيس أول نادٍ سعودي كان لنادي الاتحاد في جدة عام 1927م، وهو يعني مأسسة الرياضة منذ دخول كرة القدم للسعودية؛ حيث تظهر فتوى في حكم لعب كرة القدم للشيخ محمد بن علي بن حسن بن إبراهيم المالكي (المتوفى عام 1367هـ/ 1947م)، في 26 رمضان 1349هـ، وقد كان نص السؤال عن حكم لعب كرة القدم. وهذا يعني سرعة مواكبة الفتوى الدينية للظواهر الاجتماعية، مثل: لعبة كرة القدم، أكثر من سرعة تنظيمها، وبالتالي، فإنه من المتوقع عدم نضج ظاهرة التشجيع إلا بعد نضج ظاهرة الدوري السعودي، وهو ما تحقق في المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية: بواكير ثقافة التشجيع

مع ازدياد أعداد الجماهير بدأت تظهر فكرة المدرجات في الملاعب، وكلما زاد عدد الحضور، زادت إجراءات إدارة الملاعب بإبعادهم مسافة أكثر، ووضع الكراسي، ثم مدرجات إسمنتية.

وفي كل مرحلة ينشأ شكل من الأهازيج، فكان كل من: المدرجات والجماهير والأهازيج، يكبرون سويًّا على مدى أكثر من نصف قرن.

ويظهر مقطع فيديو لمباراة الأهلي والاتفاق على بطولة الدوري العام (1388هـ/ 1968م)، التي فاز بها الأهلي بتاريخ 28/2/ 1389هـ أن الجماهير يقفون على الأرض ملاصقين لخط الملعب، وخلفهم سور (حوش)، وكان جانب من الملعب يضج بالتشجيع المعتمد على قرع الطبول، ويتوقف التشجيع لحظة تسجيل الهدف، لمشاركة اللاعبين الفرح، وقد انتهت هذه الظاهرة؛ حيث صار الجمهور المعني بالأهازيج لا يتوقف حتى أثناء تسجيل الهدف لفريقهم.

وفي مقطع آخر عن مباراة النصر والشباب ضمن دوري "الاتحاد العربي السعودي لكرة القدم" للموسم الرياضي 1396هـ/ 1976م، كان الملعب مزودًا بمدرجات إسمنتية تتسع لبضعة آلاف من المتفرجين، ويقف في وسط الملعب جماهير نادي النصر بدأوا بالأهزوجة التالية قبل انطلاق المباراة، وكانت على قرع الطبول وبرتم بطيء:

"أوووه أوووه إلعب يا الاصفر"

وبعد ضغط فريق النصر وحصوله على فرص التسجيل، يتغير رتم التشجيع وتتغير الأهزوجة بصوت سريع ويثير الحماس، ويردد:

"إلعب يا الأصفر إلعب"

ويبدو أن التشجيع البطيء والسريع يأتي من معرفة الجميع بأدوارهم، ولم يكن الجمهور آنذاك بحاجة إلى قائد إلا لقيادة ما هو متعارف عليه، نظرًا لبساطة الأهازيج.

وفي مقطع آخر عن مباراة النصر والأهلي ضمن بطولة كأس الملك عام 1396هـ/ 1976م، كان الجمهور يردد أهزوجة برتم هادئ:

"روّحوا... روّحوا... ربي يستر عليهم"

وعند لحظة إشعال الحماس، تقرع الطبول ثلاث مرات بسرعة، وتختم بكلمة جماعية موحدة، هكذا: "طق. طق. طق: نصر"، وتتكرر العملية، وهذه الأهزوجة تكاد تكون منتشرة بين كثير من جماهير الأندية، ويتغير اسم النادي فقط.

وفي مقطع أيضًا عن مباراة الهلال والاتحاد ضمن بطولة كأس الملك للموسم الرياضي 1402هـ/ 1982م، كانت أهزوجة نادي الهلال:

"قدرة الله قوية، والهلال غالي عليّه".

كانت الثيمة الأساسية للتشجيع في هذه المرحلة تتكون من أهازيج سريعة وأهازيج بطيئة، بحسب موقع رتم اللعب، وكانت أصوات الجماهير على قرع الطبول، وقد يدخل التصفيق باليدين والتصفير بالفم لإشعال الحماس، وكانت الكلمات شبه مشاعة، ولا يوجد احتكار أي جمهور لأهزوجة، إلا نادرًا، وقد تزيد سعة المدرجات ويزيد عدد المشجعين ويقوى صوت الأهازيج، إلا أن الجانب الفني فيها استمر منذ موسم 1386هـ/ 1966م حتى موسم 1410هـ/ 1990م؛ وذلك بحسب ما تظهره المباريات المرفوعة على يوتيوب، والتي تم تحليل أهازيج جماهيرها.

ونظرًا لتشتت مشجعي الفريق الواحد في جنبات الملعب، وضياع جهودهم وسط جماهير متفرجة وصامتة، فقد برزت فكرة جمعهم في مكان واحد مخصص للجمهور الذي يهتف طوال المباراة، ثم تشكلت من الجمهور النشط رابطة مشجعين ترتبط بإدارة النادي، وتنسق معه جهودها وتحظى بدعمه.

وقد كانت أهازيج الملاعب تصدر عفويًّا في بدايات التشجيع، ويمكن لأي مشجع ذي صوت قوي أن يطلق كلمة مسجوعة، ثم يرددها معه الجمهور، وكان دور التشجيع غير محدد؛ ولذلك كان يمارس التعليق الجزئي، ويبدي رأيه في فريقه وفريق الخصم والحكم، وجميع الحركات غير المألوفة.

وتعتمد الأهازيج في بداياتها على الصوت الجماعي فقط، مدعومة بالتصفيق باليدين والتصفير بالفم، ثم مع ظهور رابطة المشجعين، دخلت الطبول وأعلام عليها شعار الفريق.

هذه الثيمة السائدة في أهازيج الملاعب السعودية، ويوجد بواكير للحداثة في التشجيع يقودها رئيس رابطة مشجعي المنتخب السعودي، ونادي الوحدة، عاطي الموركي؛ حيث كشف في لقاء معه أثناء قيادته لتشجيع المنتخب في بطولة آسيا المقامة في سنغافورة، أنه كان يشجع بمكبر الصوت "مايكرفون"، وهي الظاهرة التي لم تدخل المدرجات السعودية إلا في التسعينيات.

ويذكر عاطي أنه فوجئ بالجمهور السعودي القليل في سنغافورة، ولكن القنصل السعودي تدارك الموقف وأحضر خمسة عشر حافلة محملة بطلاب تحفيظ القرآن ومعهم أعلام المنتخب، ممن يحبون السعودية، بوصفها بلاد الحرمين الشريفين، ونظرًا لعدم معرفتهم باللغة العربية، فقد دربهم عاطي على ترديد كلمات بسيطة، في حين كان يقود الأهازيج، وكانت أهازيجه موزعة بينه وبين الجمهور الجديد كما يلي:

عاطي: حبيبكم مين؟

الجمهور: سووودي. أي يعني سعودي

عاطي: قولوا معايا

الجمهور: سووودي

عاطي: الله أكبر

الجمهور: سووودي

عاطي: بتحبوا مين

الجمهور: سووودي

وفي حال الهجمات السعودية:

عاطي: لا إله

الجمهور: إلا الله

عاطي: سعودية

الجمهور: ما شالله.

وقد حققت فكرة الصوت الجماعي الداعم للمنتخب وصولها للملعب، مما يؤكد على أن الحضور المكثف يعتبر مادة خامَا تؤدي دورها التفاعلي اجتماعيًّا ونفسيًّا في الملعب، حتى ولو كانت خالية من معاني الحالات المزاجية والتعصبية للجماهير التي تسود المدرجات دائمًا.

ويؤكد هذا الموقف على أن مبدأ الحضور الجماهيري تعبير تواصلي، وخطاب جماهيري، فهو تعبير تواصلي يبث روح الطاقة الداعمة في داخل الملعب، ويمكن أن يردد أهازيج تملى عليه بصوت جماعي قوي، وهو خطاب جماهيري، بمعنى أن السلوك الجمعي لغة صامتة توصل أهدافها دون إعلانها.

المرحلة الثالثة: رابطة المشجعين

لا يعرف على وجه التحديد اللحظة التي عُنيت فيها إدارات الأندية والاتحاد السعودي لكرة القدم بتنظيم الجماهير والسيطرة على كلمات الأهازيج؛ إلا أن ما بعد حرب الخليج عام 1990 لم تكن جماهير الملاعب كما هي قبلها؛ حيث زاد استيعاب المدرجات ودخلت مكبرات الصوت وتحولت الأهازيج إلى صناعة أدبية وفنية، وتشكل لها لجان لتحكيم الكلمات واختيار اللحن المناسب، وأداء بروفات على مسارح الأندية، ثم اشتعلت المنافسة الفنية في المدرجات لتقييم من الأفضل أداء بين رابطة مشجعي الأندية، وكأنها مباراة في الملعب ومباراة في المدرجات.

ابتكرت الجماهير أغاني وأناشيد استقتها من تراثها أو من حبها لأنديتها، ومع مرور الوقت، أصبح الأمر ليس مجرد أهازيج يتم ترديدها في المدرجات، ولكنه تحول ليُصبح أغاني رسمية يتم ترديدها قبل أي مباراة، ومن أبرز مقدمات أو مطلع أناشيد أندية الدوري السعودي للمحترفين:

نادي الأهلي:

لك العهد والعشق والانتماء .. وخلفك نمضي صباحًا مساء

لتبقى مجيدًا ...وفخرًا وعيدًا .. وصرحًا فريدًا .. يطال السماء

يا قلعة المجد والمجد أهلي .. يا منبع الفن والفن أهل.

نادي الهلال:

زعيم عشقناه منذ القدم شعار علم .. يا هلال

وفخرا حصدناه منذ القدم شعار علم .. يا هلال

نادي الاتحاد:

وطن وطن وطن نادي الوطن اتي

نادي النصر:

فلتصمت الدنيا لتسمع صوتنا .. ولينطق التاريخ ليحكي مجـدنا.

وتميزت جماهير الاتحاد برقصة خاصة على أنغام "يمشى كدا كدا" لتجتاح هذه الاحتفالية الملاعب العالمية. فقد قامت الحسابات الرسمية على موقع التدوينات القصيرة "تويتر" لعدد من الفرق الأوروبية، ومنها مانشستر سيتي، ليفربول، برشلونة، موناكو، وروما وميلان وغيرها بالاحتفال على طريق العميد "يمشي كدا كدا".

ويروي أحد المشجعين، كما ظهر في أحد مقاطع الفيديو على يوتيوب، أن "يمشي كدا كدا" نعرفها من زمان. ومشهورة في المنطقة الغربية. ولكن جمهور الاتحاد نشرها أكثر.. وهي تقال لوصف الشخص المغرور، ويقال عنه: يمشي كدا كدا مع حركة الذراعين والصدر. لكن جمهور الاتحاد يقصد أن الاتحاد يمشي بغرور وثقة كالنمر نحو الصدارة ولا يهمه أحد.

وهذا التصدير لبعض الأهازيج، نابع من إطار ثقافي أوسع، يتمثل في قدرة الشباب السعودي على قيادة المزاج العربي بالأهازيج والإفيهات، وخاصة بعد أحداث ثورات الشعوب العربية عام 2011، وكان الشباب المصري هو الذي يقود المزاج العربي قبلها.

ويوجد ثلاثة أشكال من التشجيع المنظم هي: مجلس الجماهير، وهي النسخة الأولى من التنظيم، ثم تطورت إلى رابطة المشجعين، ويكون لها رئيس ونائب للرئيس، ثم تطورت مع دخول الحوكمة لأندية كرة القدم إلى إدارة رابطة المشجعين، وتكون جزءا من الهيكل الإداري للنادي.

تتشكل من الجماهير رابطة للمشجعين، وهي نخبة الجمهور؛ حيث إن لها خصائص تميزها، من أبرزها وجود رئيس للرابطة يمثل الجمهور أمام مجلس إدارة النادي، ومهمته قيادة التشجيع في حالات الفوز والهزيمة، وصناعة الأهازيج وتلحينها، وللرابطة أماكن محددة من الملعب، ومهمتها الهتاف لفريقها طوال الوقت.

ويعد نادي الاتحاد أول ناد سعودي اتجه للاهتمام برابطة الجماهير، وتحديدا منذ عام 1377هـ، حيث كان المشجع الاتحادي المعروف "عبد الرحمن كاكا" أول من أشرف على تنظيم الجماهير في المباريات. وفي عام 1387هـ أصدر رئيس نادي الاتحاد آنذاك محمد عشماوي قرارا بتعيين عبد الله شعيب كأول رئيس لرابطة المشجعين، وقد خلفه في قيادة الرابطة صالح القرني اعتبارا من عام 1411هـ.

وقد أدخلت رابطة مشجعي الاتحاد أهازيج عصرية، ولكنها شهدت اعتراض مجموعة من كبار السن على الأساليب التشجيعية الجديدة، ولكن تم إقناعهم بضرورة التأقلم مع المرحلة الجديدة من فن التشجيع. ولم يتنازل رئيس الرابطة الاتحادية صالح القرني، من جهته، عن موقفه بسهولة، رغم مشاركته في تنظيم التدريبات على الأهازيج التي سبقت الموسم الجديد؛ إذ أكد أن الأهازيج والطبول موروث اتحادي يصعب إلغاؤه، كما اعترض على عدم إدخال معدات التشجيع القديمة إلى المدرجات، وأصر على الاستعانة بها.

يروي بدر تركستاني، مدير إدارة رابطة المشجعين بالنادي الأهلي، أن أندية المنطقة الغربية هي قائدة الأهازيج في الرياضة السعودية؛ وذلك لوجود مجموعة من الفنانين والملحنين المحبين لهذه الأندية، ولأن التراث الحجازي غني بالفلكلور الفني الشعبي المناسب لاستخدام ألحانه في أهازيج الملاعب، كالمجرور والينبعاوي والخبيني.

وبالنسبة لصناعة الأهازيج في النادي الأهلي، فهي تمر بمراحل، تبدأ بكتابة الأغنية، وغالبًا ما تكون مجانية من شعراء أهلاويين، مثل سلطان الغشمري، الذي قدم أكثر من ثلاثين أغنية فنية لجماهير الأهلي، وأحيانًا يتم تكليف أحد الشعراء أو شراء أهزوجة، بحسب تقدير اللجنة الفنية.

ويشرف على أهازيج جماهير الأهلي لجنة فنية مكونة من خبرات فنية كبيرة، مثل: ياسر عبدالخالق، وهو فنان شعبي، ورئيس اللجنة الفنية، والفنان عبادي الجوهر، وتكمن إسهاماته في كتابة الأهزوجة والتلحين وتحكيم الأعمال الفنية للنادي، ووسيم باسعد، كاتب موسيقي وملحن، والفنان طلال سلامة، محكم مجسات وفلكلور، وأحمد فتحي، ملحن.

كما أن رابطة المشجعين تصدر ألبومات فنية ملائمة لسماعها في السيارة والمنزل، وغير ملائمة للتشجيع بها، ومن أشهر ألبومات الأهلي: "يا ويلي"، و"سفير الوطن"، و"للأهلي جينا"، و"مجانين"، وتشكل في مجموعها 45 عملًا فنيًّا.

وتبدأ مراحل اعتماد الأهزوجة، بعرض الكلمات على اللجنة الفنية، ثم تلحينها، ثم تحديد عرضها بحسب قوة الأهزوجة مع أهمية المباريات؛ حيث لا تطرح الأهازيج القوية إلا في المباريات الحاسمة أو مع الأندية الكبيرة، ثم عمل بروفات داخل مسرح النادي، وإذا اعتمدت المرحلة النهائية، يتم الإعلان عن موعد الأهزوجة الجديدة من قبل المركز الإعلامي للنادي. وجميع كلمات الأهازيج وتلحينها يوثق في سجلات المؤسسات المعنية بالتراث وحقوق الملكية الفكرية.

ويؤيد هذا أن أواخر التسعينيات كانت مرحلة انتقالية أساسية في تاريخ الأهازيج؛ حيث أدخلت الجماهير السعودية مكبرات الصوت لأول مرة، ثم انتشرت هذه الثقافة إلى الملاعب العربية والعالمية.

ويظهر حجم اندماج المجتمع والفن مع أهازيج الملاعب، وصار الجمهور يردد أهازيج مستوحاة من ثقافته وتراثه الشعبي، مما يعزز الانتماء للنادي والفن والتراث الثقافي.

ويظهر أيضًا أن الأهازيج قد اتخذت شكلًا متطورًا ومعقدًا، من خلال استحداث خط إنتاج متكامل للأهزوجة، ومنحها الصفة الثقافية والفنية، ولها حقوق ملكية، ولم تعد تصدر بشكل عفوي كما كان الوضع في السابق.

ويشير صالح القرني، رئيس رابطة مشجعي نادي الاتحاد، إلى دور رابطة المشجعين الاجتماعي في التواصل الدائم مع إدارة النادي ومع بقية الألعاب في النادي، ولجنة رابطة لاعبي الاتحاد القدامى ولجنة بصمة اتحادي، إضافة إلى زيارة بعض الجمعيات الخيرية والمشاركة في الاحتفالات العامة.

المرحلة الرابعة: الألتراس

برز في السنوات الأخيرة ظاهرة الألتراس Ultras Spirit، وهي النسخة المتعصبة والمتطرفة في تشجيع النادي، بحيث لا تخضع لتوجيهات إدارة النادي، ولا تقبل التبرعات، واشتهرت بالهتاف السياسي والاحتجاج ضد الحكومات بأهازيج، ولهم مواقع خاصة في المدرجات، وعادة ما تكون أرخص تذاكر والأبعد عن المشاهدة الممتعة، مما يجعلهم ينشغلون بالهتاف طوال المباراة.

ويُعرّف الألتراس بأنها: جماعات تشجيعية باستخدام شعارات وأغان وألوان خاصة بها، وتقوم فلسفتها على التشجيع الدائم لفريقها، وهو تشجيع يقترب من درجة التعصب، فمفهوم الألتراس كلمة لاتينية الأصل تعنى حرفيًّا الفائق أو الزائد عن الحد، أما المعنى الشائع فهو فئة من مشجعي الفرق الرياضية معروفة بانتمائها وولائها الشديد للفريق، وتحمل اسمًا خاصًا وتضع شعارًا خاصًا بها.

تعتبر ظاهرة الألتراس من أبرز مظاهر التشجيع؛ وذلك لأنها تدين بالولاء المطلق لفريقها، وتتعصب له، وتشجعه طوال المباراة وقوفًا، وجاهزة لحمل صور ولوحات سياسية أو مناوئة للدولة أو للفريق الخصم، ومستعدة للاشتباك خارج الملعب وداخله.

وبدأت حركة الألتراس في إيطاليا في أربعينيات القرن العشرين، من قبل الطلبة والعمال والفلاحين، وكان دافعهم لذلك هو عشقهم لكرة القدم وعدم امتلاكهم للمال لشراء التذاكر، فوجدوا في مدرجات الدرجة الثالثة ضالتهم لأنها الأقل سعرًا، وبما أنها الأقل وضوحًا للمشاهدة؛ فقد اعتبروا عملية التشجيع هي الهدف، وليس المشاهدة، وهنا يزول العجب عندما نجد جماعات الألتراس في حالات كثيرة منشغلة عن متابعة المباريات للتشجيع، وقد يعطي عضو الألتراس ظهره للملعب طوال الوقت، وبما أن الفقر أحد الدوافع لإنشاء الألتراس، فقد تحولت حركتهم مع الوقت إلى إعلان وجودهم من خلال التشجيع وتأليف الأغاني والأشكال للتعبير عن مشاكلهم واحتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وانتقلت من إيطاليا، وانتشرت في أنحاء أوروبا، ثم انتقلت من الملاعب الأوروبية للملاعب العربية، وكانت البداية في الشمال الأفريقي الأقرب إلى دول أوروبا.

أهم مصطلحات الألتراس

يوجد عدد من المفاهيم المرتبطة بالألتراس، ولكنها ليست مترسخة في ظاهرة التشجيع في الملاعب السعودية، ما عدا التيفو، ومن أبرز مصطلحات ومفاهيم الألتراس:

-روح الألتراس (Ultras Sprit) وهي روح مقدامة مثابرة تولد مع الفرد وتعمل في صمت وجهد لتحقيق أهداف عظيمة من خلال الانصهار مع أفراد المجموعة في كيان واحد.

- عقلية الألتراس (Ultras Mentality) وهو مدى فهم الفرد والوعي الكامل بفكر المجموعة.

‏- الباش أو البانر أو الباتش (Batch)، وهي اللوحة التي تحمل اسم المجموعة وشعارها، ‏ويميل لون الباش واللوقو لألوان الفريق الذي تناصره المجموعة.

- كورفا (Curva) وهي المكان الذي تجلس فيه الألتراس. وتسمى: المنطقة العمياء، والدرجة الثالثة، نسبة إلى المكان الذي يجلس فيه الألتراس.

‏- الدخلة (intro)‏ يختلف الأنترو باختلاف خامات صنع اللوحات، مثل الخلفيات المرسومة والأعلام الضخمة أو الشرائط البلاستيكية والورق الملون الذي يحمله كل مشجع ليرسم لوحة كبيرة.

- التيفو (Tifo) وهو علم كبير بحجم المدرج أو أصغر، وبه رسمة "الإنترو".

‏- الكابو (Capo) وهو الأب الروحي للمجموعة وقائد المدرج، ويتميز بجاذبية وعقلية عاليتين، ويقود ‏المجموعة في التشجيع من خلال شخصيته القوية.

- أغاني الألتراس ((Ultras Songs فلكل مجموعة أغان تميزها بألحان حماسية.

وظاهرة الألتراس في الملاعب السعودية منضبطة، ومحكومة بقوانين تمنعها من الإيذاء أو مناهضة قيم المجتمع. وبالتالي، لم يكن لبعض مفاهيم الألتراس ضرورة لانتفاء خاصية العنف والتحدي؛ لذلك تتسم ثقافة الألتراس في الملاعب السعودية، بأنها نشأت من إدارات الأندية قبل أن تنشأ من داخل المدرجات، فجاءت في سياق ناعم ومتمركز حول المعايير الفنية للتيفو لكل نادٍ.

وقد دشن نادي الهلال في موسم عام 2019 ألتراس النادي الجديد، والذي تم اعتماده تحت اسم "القوة الزرقاء"، والمكون من أربعة آلاف عنصر، ويرتدي الجميع زيًّا أزرق موحدًا، وهو المسؤول عن تصميم التيفو لمباريات النادي.

وتعتبر لوحات التيفو Tifo أحد المظاهر الفنية الضخمة التي يرسمها جمهور الألتراس لدعم فريقهم أو منصة للمناسبات الوطنية.

ومن أشهر التيفوهات في الملاعب السعودية، نجد التيفو الذي نفذه جمهور الهلال في مباراة فريقه ضد لخويا القطري 2015 سبقًا حيث حل بين أفضل عشرة تيفوهات عالمية، وجسد التيفو شخصية الجوكر، وأشهر تيفوهات النصر كانت أيضًا أمام لخويا القطري، والذي نفذه الجمهور في المباراة التي جمعتهما في دوري أبطال آسيا في مايو 2015، ولقي إشادة الصحف ووسائل الإعلام والحسابات العالمية الشهيرة.

رابعًا: الخطاب الاجتماعي في المدرجات

يشير مفهوم "الخطاب" إلى العلاقة بين تصورات الأفراد عن انتماءاتهم واللغة التي يستخدمونها في التعبير عن أفكارهم، وقد تكون اللغة منطوقة أو مكتوبة أو سلوكًا يدل على معنى واضح. وقد يتشكل الخطاب من اللغة المنطوقة ومن العادات والتقاليد؛ حيث إن الثقافات تنتج خطابها باستخدام لغتها.

وفق هذا المعنى، يمكن تحديد ثلاثة أنواع من خطاب المدرجات، هي:

الجماهير العامة: وخطابها الفرجة والمتعة.

ورابطة المشجعين: وخطابها الهتاف بأهازيج داعمة لفريقها.

والألتراس: وخطابها التعصب المفرط ومناهضة المجتمع، وقد يكون لها خطاب سياسي داخل الملعب.

يلحظ أن خطاب الأناشيد الرياضية نتاج جماعي يجمع بين الإمتاع والإقناع، كما يقوم على أسس تواصلية وتفاعلية؛ حيث تسعى الأولى إلى التعبير عن الانتماء والهوية الرياضية، والقيم الثقافية والإنسانية، أما الثانية فتترجم أوضاع المجتمع داخليًّا وخارجيًّا؛ فلقد أضحى الخطاب الرياضي اليوم خطابًا ثقافيًا مؤثرًا، ونشاطًا اتصاليًّا.

وتتعدد الأنواع الخطابية التي تشكل الخطاب الرياضي الجماهيري؛ وتشمل أنواعًا لغوية؛ مثل هتافات الملاعب، وأناشيدها، وتعليقات اليوتيوب، والتعليقات المكتوبة على شريط التلفزيون، إضافة إلى أنواع أخرى غير لغوية؛ مثل الصور التي يحملها أفراد الجمهور في الملاعب، أو يرسمونها على الملابس أو الأجساد، وأنواع الاستحسان والتشجيع غير اللفظية؛ وأكثر الأنواع الخطابية الأكثر شيوعًا في الوقت الحالي بين جماهير كرة القدم؛ هو أناشيد الملاعب.

تطور التشجيع الرياضي بشكل سريع وكبير، ودخلت بعض مصطلحات الجماهير وأهازيج الملاعب إلى لغة الحياة اليومية، مثل: جحفلة، هيا تعال، متصدر لا تكلمني. مما يعني التفاعل المباشر بين مجتمع المدرجات والواقع الاجتماعي، وهو أمر لم يكن معروفًا بهذا الشكل من قبل.

وقد كانت مظاهر التشجيع واستفزاز أندية الخصم تتمثل في الكتابة على الجدران، ثم انتقلت إلى ظاهرة السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي "الطقطقة" وبناء معانٍ جديدة باستخدام صور ومقاطع عامة وتحويلها إلى إسقاطات موجهة مع وضع شعارات الأندية التي تعكس المشهد. واستخدمت الإيموجي في التعبير عن مشاعر الفرح والغضب.

واتخذت الأندية شكلًا اقتصاديًّا مع جماهيرها بافتتاح سلسلة من المتاجر التي تبيع قمصانها والزي الرياضي، والاشتراك في الرسائل النصية، وصار أحد أشكال دعم النادي بالشراء والترويج للشعار.

وقد فتحت ملاعب كرة القدم أبوابها لحضور السيدات للتشجيع لأول مرة في تاريخ المملكة في 12 يناير 2018. وهو أحد أشكال عولمة التشجيع، وإتاحة الفرص لتوسيع أماكن الترفيه وقضاء أوقات الفراغ والمتعة، مع الأسرة.

خامسًا: الثقافة العالمية في الأهازيج والفاعلون الجدد

خرج المنتخب السعودي من الدور الأول لبطولة كأس العالم، ولكنه هزم الأرجنتين في الملعب، وأطلقت الجماهير السعودية أعظم أهزوجتين، اجتاحت مدرجات الجماهير الأوروبية واللاتينية والعربية، وصارت تقال في كل مناسبة. وسوف نستعرض أهازيج المدرجات السعودية في كأس العالم 2022 في قطر، ومستويات تأثيرها، وتحليلها اجتماعيًا، كالتالي:

الثقافة العالمية والفاعلون الجدد

حققت السعودية أول مفاجأة في بطولة كأس العالم بهزيمتها للأرجنتين، المرشح للفوز بكأس العالم، وتحولت إلى "ترند" عالمي ومحور حديث الإعلام والشارع الرياضي في العالم ومحل متابعتهم، مما سهل مهمة انتشار أهازيج المدرجات السعودية، والإنصات لرأيهم في فوزهم.

وقد كانت الجماهير السعودية جاهزة للعالمية وعلى مستوى الحدث، وأكدت للعالم أنها شعب متذوق لكرة القدم ومتفاعل معها، وقد مسحت الصورة الذهنية السلبية المتراكمة عن أداء المنتخب السعودي في بطولات كأس العالم السابقة، كما أكدت على قوة الكلمة إذا تكامل معها رشاقة العبارة وحسن التوقيت وخفة الدم وعنصر المباغتة والإبهار، والسخرية من الخصم دون الحط من مكانته أو التعرض له بسوء، مما جعل من الأهازيج فاعلاً جديداً في صناعة التغيير.

وتنطوي صناعة التغيير على مسألة ثقافية وفلسفية تكمن في تأكيدها على أن صانع التغيير الثقافي العالمي لم يعد المثقف والفيلسوف والمفكر النخبوي، كما كان الحال في السابق، وإنما صانع التغيير هم مجموعة "فواعل اجتماعية جديدة" تصنع التغيير، من أبرزها أهازيج المدرجات بوصفها "فاعلاً اجتماعياً جديداً"، لديه صناعة محتوى ولغة تواصل عالمية.

وهذا يعني أن المثقف والفيلسوف عليه أن ينتج الفكرة ويضعها في سياقها الاجتماعي والثقافي، ثم تنتشر بمعرفة "الفاعلين الاجتماعيين الجدد"، كما يعمل عالم الهيستولوجي "علم الأنسجة"، بدراسة أنسجة الحيوان والنبات وإنتاج مضادات كيميائية للحفاظ على أنسجة الإنسان، ومهمتهم تعتبر أساس العلاج الطبي الذي يصرفه الأطباء والصيادلة وتنشره شركات الأدوية، فتذهب الشهرة والأموال والمكانة الاجتماعية للفواعل الطبية، ويبقى مصدرها الأول غير معروف.

وصارت الأهازيج تحمل معها سمات العالمية، وأبرز سماتها أن تظهر للمجتمع مباغتة وفوضوية، رغم التخطيط المنظم لكثير منها. وبعض الأهازيج تكون عفوية فعلًا، وتسهم تطبيقات التواصل الاجتماعي، وخاصة "تيك توك" في إشهارها في اللحظة التي تعلن فيها. وهي تشبه الأغاني الشعبية التي تحقق مليارات المشاهدات، لاتسامها بأنها قصيرة وشعبية وتبدو فوضوية.

وصارت لغة الثقافة الشعبية وأسلوب الحياة توجد في "الفاعلين الاجتماعيين الجدد"، وهم مشاهير الفنون الذين يحققون الشهرة ويعرضون منتجهم الرياضي والفني عبر تطبيقات التواصل، ومن أبرزهم: قادة مدرجات الملاعب بالأهازيج ومشاهير اللاعبين في الرياضة ومشاهير الفن والطبخ والأزياء، فهذه الفنون أصبحت هي لغة التواصل العالمي بين الشعوب.

وقد حققت "الفواعل الاجتماعية الجديدة" من التقارب والتفاهم الروحي والمعنوي بين شعوب العالم أكثر مما حققته السياسة والثقافة النخبوية، واختفت اللغات المحلية وحل محلها لغة عالمية مشتركة أنتجتها الأهازيج.

ومن أبرز سمات الأهازيج سريعة الانتشار والتأثير العالمي، أنها قصيرة المدى، بسبب طبيعة الرياضة المتغيرة، ولوجود مؤسسات إعلامية وإدارة محتوى مهمتها ترشيح المحتوى الذي يحمل سمات الانتشار السريع، ولظهور محتويات مكثفة ومستمرة، وبالتالي، فمن طبيعتها سرعة الانتشار والتأثير وسرعة الاختفاء.

الأهازيج: محلية الصنع عالمية الانتشار

"ميسي وينه، كسرنا عينه"

كانت سمعة اللاعب ميسي سبقت سمعة منتخب الأرجنتين، وأطلق الإعلام الغربي والأرجنتيني خياله عن شكل الهزيمة التي سوف يتلقاها المنتخب السعودي بقيادة ميسي، ولكن الواقع قال عكس ذلك، وانتهت المباراة بفوز المنتخب السعودي على الأرجنتين بهدفين مقابل هدف، ولم يكن لميسي أي دور في الملعب، فجاءت من المدرجات أهزوجة "ميسي وينه... كسرنا عينه"، وقد تنطق بإبدال الهاء إلى واو، فيقال: "ميسي وينو... كسرنا عينو".

وقد واجه الإعلام الغربي صعوبة في البداية في ترجمة الأهزوجة بالمعنى، وخاصة في شرح المعاني المضمرة في كلمة "كسرنا عينه"؛ لأنها من التعبيرات الشعبية التي تعني هزيمته نفسيًا، ولكنها سرعان ما انتشرت بعدما عُرف المعنى، وصارت أيقونة لجميع المنتخبات المنتصرة في كل مباراة، وصار كل منتخب يفوز، يطلق جماهيره بعد المباراة أهزوجة "فلان وينه كسرنا عينه"، ويحددون اسم اللاعب الأهم في المنتخبات المنافسة، وقد استخدمتها الجماهير العربية والأوروبية واللاتينية أيضًا.

"أين ميسي؟"

بعد انتهاء المباراة انتشرت الجماهير السعودية خارج الملعب، للتحدث مع وسائل الإعلام العالمية التي تقابلها في الشارع، ومع الجماهير الأرجنتينية، ويسألونهم: ويرز ميسي؟، وقد بدأت بدخول مفاجئ لمشجع سعودي على مذيع قناة كوري يقدم تقريره خارج الملعب، وسأله بطريقة شخص تائه يبحث عن شيء ضيعه: ويرز ميسي؟ فضحك المذيع، وبدأ المشجع يبحث عن ميسي في جيوب ملابس المذيع وهو يكرر السؤال، وصار السؤال وطريقة البحث عن إجابة أيقونة عالمية.

وعلق الممثل الأمريكي والناقد التلفزيوني تريفور نوح على هذا المقطع بأنه من ألطف ما شاهده في أحداث كأس العالم.

وحقق هذا السؤال انتشارًا كبيرًا لأنه أطلق باللغة الإنجليزية، واحتوى على سؤال ماكر، ويحمل معه إجابته التي تؤكد اختفاءه في الملعب.

"سوق واقف"

كان للجمهور السعودي حضوره القوي في كل مكان يكون فيه، وخاصة في سوق واقف الشعبي، الذي أصبح الملتقى اليومي لجميع الجماهير، في الدخول المباشر مع جماهير المنتخبات الأخرى، والمشاركات الإعلامية الخاطفة. وقد ساعده على ذلك قيم وسمات اجتماعية غير فوز المنتخب، مثل: خفة الدم لدى المجتمع السعودي عامة، وتعرفه المسبق على ثقافات الشعوب عبر السفر، وانفتاحه على تقبل الآخرين والاندماج معهم، وأنهى على أرض الواقع الصورة الذهنية السلبية التي تروج لانغلاق المجتمع السعودي وعدم تقبله للآخر.

وبعد هزيمة المنتخب السعودي الثانية، تعمدت الجماهير الأرجنتينية البحث عن الجمهور السعودي، وسؤاله عن اللاعب سالم الدوسري، من مبدأ الرد.

وقد شعرت الجماهير بفقد روح الشارع بعد خروج المنتخب السعودي من الدور الأول، وعودة الجماهير السعودية، حيث تظهر مقاطع فيديو ولقاءات تلفزيونية حنين الجمهور القطري واستمتاعه بحضور الجماهير في الملعب وفي الشارع والأسواق، وأسفه على مغادرة الجمهور السعودي. وذلك لقدرة الجمهور على إضفاء طابع البهجة والمتعة في المكان الذي يقيمون فيه.

إذن؛ كانت أهازيج الجمهور السعودي حاضرة في كأس العالم التي استمرت حتى آخر مباراة، وأضفى طابع الأدب الرياضي الساخر بعبارتين "ميسي وينه. كسرنا عينه"، و"ويرز ميسي؟"، وصارت أيقونة، تؤكد على أن الجمهور السعودي قوة ناعمة، وتمتلك شروط تصدير الأهازيج العالمية، وأن المجتمع السعودي محب للرياضة ومتقبل للآخر، ويؤثر ويتأثر مع شعوب العالم.

سادسًا: ثقافة الرياضة النسائية

لم يكن قرار دخول النساء للتشجيع في الملاعب، ثم قرار الرياضة النسائية جديدًا، بل كانت ثقافة الرياضة النسائية معروفة في فضاءات اجتماعية محدودة، ويبدو ان لعب كرة القدم النسائية موجود بحدود مغلقة قبل أكثر من نصف قرن؛ حيث يظهر سؤال لمفتي السعودية عام 1385هـ/ 1965م عن حكم لعب الكرة للنساء والمباريات فيها، مما يعني استقرارها على نطاق ضيق، رغم عدم تقبلها في الفضاءات الاجتماعية العامة.

ودخلت كرة القدم وبعض الألعاب النسائية حيز التنظيم فيما بعد، مثل: ملاعب أرامكو النسائية، وملاعب جامعة نورة النسائية، وانخراط بعض النساء في رياضات الهايكنج والدراجات والمشي. أما التشجيع فهو ظاهرة قديمة يظهر فيها صوت النساء المشجعات في تطبيقات التواصل.

يعتبر دخول المرأة للملاعب للتشجيع، أحد أشكال الثقافة الجديدة في المجتمع، وقد حملت معها منظومة اقتصادية رياضية كاملة؛ من حيث التشجيع ولعب الرياضة النسائية وظهور أزياء رياضية بخط إنتاج نسائي، وقد أصبحت مدرجات الملاعب أحد الفضاءات الاجتماعية الجديدة للمرأة والأسرة، لقضاء أوقات الفراغ، والتفاعل مع فريقها من داخل الملعب، مما أوجد متعة جديدة.

والجوانب الثقافية تكمن في المعاني الاجتماعية المرفقة بالرياضة النسائية، مثل: تنظيم اللعب وثقافة التشجيع والأزياء الرياضية وسلوك المشجعة...

يوجد منظومة ثقافية متكاملة في الرياضة النسائية، فهي تعزز من حضور المرأة في المجتمع، وإثبات ذاتها في ممارسة الرياضة وتشجيعها، وخاصة أن لها تجارب في الأندية الرياضية النسائية المغلقة والمعدة للتدريب الذاتي.

وقد جاءت الرياضة النسائية المتكاملة متجانسة مع مظاهر تمكين المرأة في الفضاءات الاجتماعية العامة، وحصولها على مساحة واسعة من المشاركة في العمل وفي الحياة اليومية.

ختام

لم تعد الجماهير ظاهرة اجتماعية من أجل الفرجة والمتعة لذاتها فقط، وإنما تحولت إلى صناعة اقتصادية وثقافية، وحركة سياسية أيضًا، فهي تخضع للتنظيم والإدارة والتوجيه.

وقد تطورت كرة القدم السعودية من التنظيم البسيط إلى المعقد بالتجانس الكبير بين كل من: تصميم الملاعب، والحضور الجماهيري، وسعة المدرجات، وأنواع الأهازيج؛ حيث بدأت الجماهير بالفرجة على الأرض، وتطورت إلى مجلس الجمهور، ثم رابطة المشجعين، وانتهت بدخولها ضمن هيكلة إدارات الأندية وحوكمتها.

وبالتالي، فإن كثافة القيم الاجتماعية والنفسية المثقلة بالمعاني التعصبية والشغب والأهازيج، سواء المنضبطة أو المناهضة، تؤكد على وجود معانٍ مضمرة داخل الحشود، وهي جديرة بفحصها بعمق بإجراء دراسات إثنوغرافية، بالحضور للملعب والمشاركة في التشجيع طوال المباراة ورصد التحولات ومصفوفة القيم التي تحرك الجماهير.

ويتضح من البحث الأهمية التاريخية لظاهرة جماهير كرة القدم داخل الملعب، ودورهم في التأثير على اللاعبين والحكام، بل وتغيير نتائج المباريات بالتشجيع المستمر.

وتؤكد التحولات في سرعة تطور المدرجات بدخول الألتراس والتيفو، والسماح للنساء بحضور المباريات، بأنها في طور التحول من ظاهرة اجتماعية إلى سوق اقتصادية كبيرة.

وقد كشفت مدرجات الملاعب عن أنها مساحة للتمايز الاجتماعي، من خلال شهرة رؤساء رابطة المشجعين، والنظر إليهم بوصفهم مشاهير المجتمع، وإمكانية استقطابهم من قبل الأندية المنافسة، لامتلاكهم مهارات التحفيز والقدرة على تحريك الجماهير، وتبديد إحباطها في حالات هزائم فريقهم.

واستطاعت مدرجات الملاعب أن تذيب الهويات القبلية والمناطقية والعرقية في هوية رياضية واحدة.

المصادر والمراجع

إبراهيم طوبال، ممارسات الجمهور بين ثقافة التشجيع والاغتراب: قراءة سوسيولوجية في طبيعة العلاقة: الأبعاد والآثار، مجلة آفاق للعلوم، جامعة زيان عاشور بالجلفة في الجزائر، مارس 2022.

اليكس بيلوس، كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية، 2013.

أمين الخولي، الرياضة والمجتمع، الكويت: عالم المعرفة، 1996.

حماد بن علي الحمادي، السلوكيات الخاطئة المرتبطة بالمنافسات الرياضية: حجمها وأشكالها وأسبابها وكيفية التعامل معها: دراسة ميدانية على المشجعين في مدينة الرياض، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فبراير 2020.

رحاب محمد، منظومة التشجيع الرياضي في مصر، اتحاد جمعيات التنمية الإدارية بمصر، يناير 2017.

رولان بارت، أسطوريات: أساطير الحياة اليومية، ترجمة قاسم المقداد، دمشق: دار نينوى للدراسات والمشر، 2012.

الطاهري إبراهيم، بلاغة الخطاب الرياضي واستراتيجيات التأثير: أناشيد جمهور الرجاء الرياضي المغربي أنموذجا، مجلة العلامة، مج6، ع2، 2021.

عبدالسلام حيمر، في سوسيولوجيا الخطاب: من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

علي الرومي وسعد السعران، السلوكيات الخاطئة المرتبطة بالمنافسات الرياضية حجمها وأشكالها وأسبابها وكيفية التعامل معها: دراسة ميدانية على المشجعين في مدينة الرياض، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، ع56، جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية، 2020.

عماد عبداللطيف، بلاغة جمهور كرة القدم تأسيس نظري ومثال تطبيقي، مجلة العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب، ع6، جامعة محمد بوضياف المسيلة، 2016.

غوستاف لوبون، سيكيولوجية الجماهير، ترجمة هاشم صالح، 1990.

الفرفار العياشي، كرة القدم بين الفرجة والعنف مقاربة سوسيولوجية، مجلة المجتمع والرياضة، مج4، ع1، 2021.

اللاعب رقم 12: الألتراس التشجيع الجديد. مجلة الدبلوماسي، وزارة الخارجية السعودية، إبريل 2012.

لوثيانو بيرنيكي، أغرب الحكايات في تاريخ المونديال، ترجمة محمد الفولي، 2018.

محمد سيد أحمد، الأبعاد الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة لظاهرة الألتراس في المجتمع المصري دراسة تحلیلیة ومیدانیة لنشأتها وتطورها واستشراف مستقبلها، حوليات آداب عين شمس، مج46، جامعة عين شمس، 2018.

محمد بن عبدالرحمن بن قاسم، فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، مكة المكرمة: مطبعة الحكومة، ط 1، 1399هـ.

محمد بن علي المالكي، فتوى في حكم لعب كرة القدم، ضمن مجموع مخطوط، تحقيق عبدالرحمن بن عبدالله الشقير، تحت النشر.

مريم حيسوم، مشاعر الهوية والانتماء: فن إدارة التشجيع، المجلة العربية لعلم الاجتماع- إضافات، بيروت، ربيع 2021.

Desmond Morris, THE SOCCER TRIBE, JONATHAN CAPE, LONDON, 1981.

Steven D. Levitt, Stephen J. Dubner, Think Like a Freak The Authors of Freakonomics Offer to Retrain Your Brain, William Morrow, 2014.

Elham Abu Nab, Women’s Fashion Consumption in Saudi Arabia, Doctoral A thesis, Faculty of Arts, Design and Humanities, De Montfort University, Leicester, 2019.

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة