المقالات
يوليو 2023

أركيولوجيا البيت العربي

البيت في جوهره ثقافة، ثقافة لا تتمثل في الأشكال والوسائل التي تبنى بها البيوت فحسب بل تتشكل في تصور البيت، وهو تصور يكشف عن المعنى الذي يمثله في أنفس من يبنونه والغاية التي تقف وراء بنائهم له، على نحو يمكن لنا معه أن نقول إن البيت ينبني في تصور الإنسان قبل أن يصبح ذلك التصور وجودا ماديا ماثلا على الأرض مكونا من الحجارة أو الطين أو الخشب أو القش.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

الذين يعتقدون أن الدائرة المبنية من الحجر والمنغرسة في وسط حفرة في تنزانيا تمثل أول بيت سكنه الإنسان قبل أكثر من مليون وثمانمائة ألف سنة لا يملكون من الأدلة ما يبرهن على ما يذهبون إليه، ومع أن تلك الدائرة الحجرية تشبه بيوت الصيادين في المناطق النائية والبدائية في أرجاء العالم إلا أن ذلك وحده لا يكفي برهانا على اعتبارها بداية لتاريخ بناء الإنسان الأول لنفسه وأسرته بيتا يسكنه بعد أن مرت عليه حقب من الزمن كان يتخذ فيها الكهوف مسكنا له، والذين يرفضون اعتبار صخور تنزانيا الدائرية أول بيت يذهبون إلى القول بأن من المحتمل أن تكون تلك الصخور طوقا لشجرة أو عدة أشجار ماتت من مئات آلاف السنين ولم يبق لها أثر، كما أن من المحتمل أن تكون تلك الصخور قد تشكلت عن طريق الصدفة وبتأثير من المؤثرات الطبيعية والزلازل وعوامل التعرية.

وحين وضع علماء الآثار أيديهم على معالم موغلة في القدم في مناطق بالقرب من مدينة نيس جنوب فرنسا تعود إلى أربعمائة ألف عام اتفقوا على أن تلك الآثار هي معالم البيت الأول الذي سكنه الإنسان، ولم تكن تلك المعالم أكثر من فجوات في الأرض بها أكوام من الحجارة عليها أثر نيران حيث كان الإنسان القديم يعد طعامه ويشوي الحيوانات التي يتمكن من صيدها.

وإذا كنا لا نشك في أن إنسان شبه الجزيرة العربية الأول قد اهتدى مبكرا لبناء بيت يظلله من الشمس ويحميه من العواصف ويقيه من هجمات الحيوانات المفترسة التي كانت تعج بها أنحاء الموطن الأول للعرب والتي كشفت عنها النقوش على صخور متفرقة في عدة مواقع، إذا كنا لا نشك في ذلك فإن البرهنة على ذلك تظل مقيدة بما يمكن اكتشافه من آثار وما تسفر عنه أعمال التنقيب من بقايا ورسوم لتلك البيوت المحتملة.

غير أن البيت ليس مجرد بناء من الحجارة أو من المواد التي يمكن أن تبنى بها البيوت، البيت في جوهره ثقافة، ثقافة لا تتمثل في الأشكال والوسائل التي تبنى بها البيوت فحسب بل تتشكل في تصور البيت، وهو تصور يكشف عن المعنى الذي يمثله في أنفس من يبنونه والغاية التي تقف وراء بنائهم له، على نحو يمكن لنا معه أن نقول إن البيت ينبني في تصور الإنسان قبل أن يصبح ذلك التصور وجودا ماديا ماثلا على الأرض مكونا من الحجارة أو الطين أو الخشب أو القش.

والبحث عن البيت العربي الأول، أو بيت العربي الأول على نحو أدق، باعتباره معنى يحتاج ضربا من التنقيب كذلك، تنقيب لا يختلف عن تنقيب الباحثين عن الآثار حين يقلّبون التراب بحثا عما يخبئه من بقايا البيت الأول للإنسان، غير أن مجال التنقيب هنا هو تلك اللغة التي لا تزال تحمل في طياتها تصورات الإنسان القديم للبيت، أركيولوجيا اللغة، أو أعمال الحفر في دلالات الأسماء فيها، تلك الأسماء التي لم تكن مجرد إشارات تحيل إلى الوجود الخارجي للأشياء وإنما تحيل إلى تمثل تلك الأشياء، تحيل إلى القيمة التي تحملها والمعنى الذي يسبغه الإنسان عليها.

والبحث الأركيولوجي يقتضي تتبع مسميات البيت، وهي مسميات تبدو لنا، عند أخذها مأخذ الإشارة مترادفة ومتطابقة غير أن كل تسمية في حقيقة الأمر تحمل معنى مختلفا، وبذلك ينتفي عنها التطابق والترادف وتصبح مكتنزة بالدلالات التي ترسم المعالم الأولى والأساسية للبيت باعتباره نتاجا لثقافة الإنسان ووعيه بالعالم من حوله وسبل تعامله مع هذا العالم.

البحث الأركيولوجي في الكلمات والاسماء لا يمكن له أن يتحقق دون الوقوف على السياقات التي ترد فيها، وما تكشف عنه تلك السياقات من معنى يشكل جذر الكلمة ومعان تمثل ما يطرأ على ذلك الجذر من تحول في الدلالة، وهو تحول يشي بما يقف وراءه من عوامل ثقافية واقتصادية واجتماعية يمكن لها أن تعين على فهم ما يمر بالمجتمعات من تطور وما يحيط بذلك التطور من محفزات وما يعتريه من تحديات.

ولعل لهذا المقال الموجز أن يكون مدخلا لدراسة معمقة ومطولة تمثل بحثا أركيولوجيا لمعنى البيت في الثقافة العربية يمكن إنجازها لاحقا، ويكتفى منها في هذا المقال ببضعة أمثلة يمكن من خلالها مقاربة ما تحمله تسميات البيت من معان ودلالات، ومن ذلك:

- البيت: تحيل تسمية البيت إلى المكان الذي يتمكن الإنسان من أن يبيت فيه آمنا من الخوف وما يمكن أن يغري به ما حوله من عدو سواء كان هذا العدو إنسانا أو وحشا يعتدي عليه خلال نومه، وإذا ارتبط البيت بالبيات أو وقت النوم ارتبط بالليل الذي هو وقت نوم الإنسان الذي يقضي وجه نهاره بعيدا عنه متجولا في الأنحاء باحثا عما يصطاده لقوت يومه أو عاملا في الحقول لزراعة ما يوفر له غذاءه، الحقل والجبل والسهل والصحراء مواقع لليقظة التي يعتمد خلالها الإنسان على يقظته لحماية نفسه من خطر ما قد يتهدد حياته، والبيت موقع نومه حين يحتاج الإنسان إلى حماية الجدران له عندما تغفو عيناه.

- المنزل: يمثل الرحيل أسلوب حياة الإنسان الأول ونمط معيشته، فهو يرتحل عبر الفيافي والقفار بحثا عن الماء الذي يستقي منه وبحثا عن الكلأ الذي ترعاه مواشيه وبحثا عن المواقع الآهلة بالصيد، رحيل دائم ومستمر على ظهور الإبل وصهوات الخيول، ولما لم يكن له بد من أن يحظى بشيء من الراحة التي يستعيد من خلالها نشاطه ويتهيأ للرحيل ثانية كان المكان الذي ينزل فيه من على صحوة جواده أو ظهر جمله منزلا له، وبهذا تتحدد دلالة المنزل باعتبارها نقيضا مقابلا للرحيل، أو وقتا مستقطعا منه، أو علامة على المكان الذي يستقر فيه بعد أن يكون قد أضناه الرحيل وبلغ منه التعب مبلغه.

- المسكن: والتسمية تحيل إلى السكون الذي يحتاج الإنسان بعد أن تستبد به الحركة، والطمأنينة بعد أن يعصف به القلق، المسكن يصبح هو المكان الذي يأوي إليه، ومما يعزز هذا المعنى تسمية البيت مأوى، المسكن هو المقابل للحقل والسهل والجبل والمواقع التي يستنفر فيها الإنسان جهده وانتباهه ويقظته وقلقه من أن يداهمه وحش أو يفوته صيد أو يتلف في مزرعته زرع وذلك ما لا يدع له مجالا للسكينة والطمأنينة، غير أنه إذا ما فرع من ذلك كله آوى إلى بيته فيصبح البيت مسكنا له.

تلك مداخل ثلاثة يمكن لها أن تقود إلى تصور الإنسان العربي للمكان الذي ينزل فيه، ثم يجده مكانا آمنا للمبيت فيه، فإذا ألفه واطمأن للإقامة فيه أصبح مسكنا له، وهي مداخل تغري ببحث موسع لا يتسع له هنا المقام.

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة