المقالات
يوليو 2025

الأساطير الشعبية في الوعي الجمعي السعودي

لا أظنّ مجلسًا في القديم إلا وقد حافظ على تلك الأساطير وحاول غرسَها من جديد في الذاكرة الشعبية .. والسؤال الكبير في هذا المقام؛ هل لا تزال تلك الأساطير حاضرةً في ذاكرة ووجدان جيل اليوم؟

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

حفرت الأساطيرُ الشعبية في وجدان السعوديين قصصًا لا تنسى، ونفخت في عددٍ من الأمكنة روحًا متأججة، كانت ستنطفئُ لولا جذوةُ تلك الأساطير، التي تسللت بشخوصها المخيفةِ والغريبة وحكاياتها العجيبة إلى كلِّ بيتٍ سعودي، وصنعت مع الزمن ثقافة وهوية متجذّرة توارثتها الأجيال لعقود، ولا أظنّ مجلسًا في القديم إلا وقد حافظ على تلك الأساطير وحاول غرسَها من جديد في الذاكرة الشعبية.
والسؤال الكبير في هذا المقام؛ هل لا تزال تلك الأساطير حاضرةً في ذاكرة ووجدان جيل اليوم؟


حول هذا الموضوع سأتناولُ مفهومَ الأسطورة الشعبية في مجتمعنا السعودي، ووظيفتها، وعلاقتها بالدين، وانعكاساتها الحاضرة والمستقبلية على ثقافتنا المحلية، لذلك سأحاول الجمعَ بين التنظير الفكري للأسطورة وإسقاطاتها على واقعنا في المسائل التالية:


أولا: هناك اختلاف حول معنى الأسطورة، ففي المعاجم العربية؛ الأسطورةُ هي من السَّطْر والسَّطَرُ: الصَّفُّ مِنَ الْكِتَابِ وَالشَّجَرِ وَالنَّخْلِ وَنَحْوِهَا؛ والجمعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَسْطُرٌ وأَسْطارٌ وأَساطِيرُ؛ وسَطَرَ يَسْطُرُ إِذا كَتَبَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ" (القلم، 1)، والأَساطِيرُ: الأَباطِيلُ. والأَساطِيرُ: أَحاديثُ لَا نِظَامَ لَهَا. (انظر: لسان العرب لابن منظور، طبعة دار صادر 1414ه 4/363).
ويذهب الدكتور خزعل الماجدي إلى رأيٍ مختلف، وهو أنَّ الأسطورةَ في لغة العرب انحدر مما يُسمّى "الإله عشتار البابلي"، فتحوّر اللفظ في اللغات السامية إلى أستار وإسطار وصار في العربية أسطورة أي حكايات عشتار، ومنه ظهرت كلمة (star) أي النجمة باللاتينية وهي نجمة الزهرة أي نجمة عشتار، ومنها جاءت كلمة (story) أي القصة والمقصود حكاية عشتار. (انظر كتابه: الأسطورة. مدخل لفهمها ودراستها، نشر معهد الشارقة للتراث، طبعة 2022، ص 22).
واعتقد أنَّ المعاجمَ القديمة للغة العربية لم تذكر هذه العلاقة بين مصدر الكلمة والإله عشتار، والاستعمال في القرآن الكريم يؤكّد المعنى اللغوي، وكذلك معجم لالاند لم يذكر هذه العلاقة، فالأسطورة (mythe) هي المستعملة في الإنجليزية والفرنسية، وأصلها يوناني (muthos) أي القصة والحكاية والشعبية، وغالب المعاني في معجم لالاند تذكر أنها حكايةٌ خرافية، شعبية الأصل، تتمثّل فيها قوى الطبيعة على صور كائنات شخصية، ويكون لأفعالها أو مغامراتها معنى رمزي. (انظر: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد، طبعة 2012، 2/850).
فالاتفاق على معنى محدد للأسطورة يتوافقُ عليه أصحاب المعارف؛ يُعدّ أمرًا مستحيلًا، ولعلي في هذا السياق ألجأُ إلى ما قرّرَه علماءُ الاجتماع في تعريف الأسطورة لشموله وقربه من سياقنا في هذا المقام، فقالوا:" هي تفسيرٌ أو قصةٌ رمزية تروي حادثة غريبة، أو خارقة للطبيعة، توجد في ثقافة فرعية، وتتميز بتناقلها وانتشارها على نطاق واسع، وتأثيرها العميق نتيجةَ ما تنطوي عليه من حكمة، وفلسفة وإثارة وإلهام" (قاموس علم الاجتماع، محمد عاطف غيث، دار المعارف الجامعية، ص296)، وهذا هو الأقرب لسياق المعنى في هذا المقال.
ولا يفوتنا وجودُ الحاجة للتفريق والتوضيح لعددٍ من المصطلحات القريبة من الأسطورة؛ مثل الخرافة، والحكاية الشعبية، وتظهر أهم خصيصةٍ لتفريقهما عن الأسطورة؛ هو تعلّق الأخيرة بأمر مقدس يظهر في طقوسٍ متوارثة تشكّل معتقدات المؤمنين بها، مثل زيوس وأثينا وهرقل عند الأغريق، وقصص الآلهة أودين وثور ولوكي عند الإسكندنافيتين، ومثلها عند الفراعنة كأساطير رع وإيزيس وأوزوريس، وغيرها كثير، بخلاف الخرافة والحكاية الشعبية، التي تأتي في سياق أدبي ثقافي منفك عن الاعتبارات المقدسة مثل قصص كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والأميرات والأقزام وقصص العفاريت والجن.
أما مصطلح الميثولوجيا فهو يشير إلى علم منهجي يهتمّ بموضوعين، هما: دراسةُ الأسطورة ذاتها بطريقة علمية منظمة، ودراسة مجموع الأساطير التي تميّزُ حضارةً ما كالميثولوجيا المصرية أو اليونانية أو البابلية.
فالأسطورة "تروي تاريخا مقدّسا، وتحكي حدثًا جرى في الزمنِ الأول، الزمن الخيالي، زمن "البدايات". وبعبارة أخرى تحكي لنا الأسطورةُ كيف جاءت حقيقةٌ ما إلى الوجود، بفضل مآثرَ اجترحتها الكائنات العليا، لا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كلّيّة كالكون مثلا، أو جزئيّة كأنْ تكون جزيرةً أو نوعًا من نبات أو مسلكا يسلكه الإنسان. إذن هي دائمًا سرد لحكاية "خلق".. وباختصار تصف الأساطير مختلف أوجه تفجّر المقدس (الخارق) في العالم" (انظر: مظاهر الأسطورة، مرسيا إلياد، ترجمة: نهاد خياطة، دار كنعان للدراسات والنشر، طبعة 1991، ص10) ، وهذا ما جعل الأسطورةَ تتلاشى كليًا بعد ظهور رسالة الإسلام عند المؤمنين بها، لأنّ أجوبة الكون والوجود وتدابير الحياة قد استقرت بوضوح عقلي وصدقٍ اعتقادي.


ثانيا: تناول القرآنُ الكريم ذكرَ الأساطير في تسعة مواضع، وكلّها في وصف الأولين، وكان الغرضُ لهذا الإيراد؛ أنَّ كفار قريش كانوا يتهمون الوحي بأنه من أساطير الأولين، بمعنى أنها ذات القصص التي يرويها أهل الكتاب حولَ نزولِ آدم وقصّة الطوفان وأصحاب الكهف وغيرها، وقد ردّ القرآن ذلك بعدةِ صور منها، أن من يزعمُ بأنَّ القرآن أساطير الأولين، وهو جاد في تهمته، وعنده من العلم ما يمكّنه من المطابقة بين الأمرين، فلْيثبت أنّ القرآن مأخوذ من هذه الأساطير؛ وليُقلْ له: القرآن قد تحداك، وتحدى البشر جميعا أن تأتوا بشيء من مثله؛ فهلّا أخذتم من أساطير الأولين كما أخذوا، وأتيتم بقرآن مثله، إن كنتم صادقين ؟! ولا أدلّ على كذب كفار قريش من قولهم " لو نشاء لقلنا مثل هذا " فما الذي أقعدهم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن، كما تحداهم الله بقوله: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ" (سورة البقرة،23).(انظر: مدخل إلى القرآن الكريم لد. محمد عبد الله دراز، دار القلم 1984، ص 135)
وتجدر الإشارة أن الأسطورةَ قد تسللت إلى حصون المسلمين من نوافذ وعّاظ الطوائف، فالمبالغاتُ في خوارق الأولياء للعقل والطبيعة، كالقدرةِ على المشي على الماء، وكلام البهائم، وطيّ الأرض، وظهور الشيء في غير موضعه، والمشي على السحاب، وتحويل التراب إلى خبز، وإبراء الأكمه والأبرص؛ بل وإحياء الموتى، جاءت في لحظة جهل وغفلة عن العلم الصحيح، وتقاعس من العلماء الراسخين.
وهذه الأساطير الخرافية التي كان السدنة يغرون بها الجهلة، لم تذهب بعيداً عن واقعنا، فلم نسلم من تلبّس بعض الجهلة بثوب الدين لمعالجة السحر والأمراض بطرق مخالفة للشريعة وصحة الإنسان، وتحويل الرؤى والأحلام إلى سوق شعبوي يهدم بيوتًا وعلاقاتٍ زوجية وفق تفسيرات كاذبة يقوم بها المخادعون، وقد ظهرت موضة الطب الروحاني التأملي كسوق جديدة للخرافات الحداثية، لهذا يقول ماكس مولر -وهو من المشتغلين بالأساطير- عن الأسطورة:" هي تصوير فترة من الجنون كان على العقل البشري أن يجتازها" (الأساطير، أحمد كمال زكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1997، ص41). وفعلا بعضها أقرب إلى الجنون والحماقة ولكن بثياب من الوقار والهيبة.


ثالثا: الأساطير الشعبية السعودية حاضرة في مجتمعنا بطريقتين، الأولى: تلك الأساطير القديمة التي تتناقلها الأجيال عبر الأزمان؛ كأسطورة أبي زيد الهلالي القوي الشجاع المغامر، فلا تكاد تخلو منطقة في المملكة من رواية أو مكان يقولون فيه: (صفا أبو زيد) أو (آبار أبو زيد) أو (قدور أبو زيد)، أو أحاديثهم عن السعلاة (السعليّه أو السعلوّه) وحمارة القايلة، وأم السعف والليف، وغيرها، وقد جمع الأديب السعودي عبدالكريم الجيهمان 136 أسطورة وحكاية شعبية سعودية في كتابه "أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب" ويقع في خمسة أجزاء، هذا النوع من الأساطير والحكايات كانت حديثَ الأوائل في القرى والأرياف وعند البادية، وكانت تُروى لأجل ما تحويه من قيمٍ وأخلاق يُراد لها التمكين، أو تُحكى بهدف التسلية والظرافة، واليوم ظهر من يحاول تجسيد تلك الحكايات في رواية أو مسرحية حداثية، أو من خلال تجسيدها في مزار سياحي يوثق عودة الحكاية بشكل عصري ونفعي.
أما الطريقة الثانية في حضور الأسطورة السعودية، فهو ذلك الحضورُ الطاغي للتقنياتِ الأسطورية، من خلال الألعاب الالكترونية ومشاهدة الأفلام الخيالية، وهي ظاهرةٌ عالمية لعودة تجسيد الاساطير بتقنيات رقمية مذهلة، وخيال مفرط في الاستحالة يسمى (الخيال العلمي)، وأصبحت أكثر الأعمال انتشارًا وإيرادًا ماليا هي فانتازيا الأفلام والألعاب، وشبّاك التذاكر يزدحم من أجل تلك القوى الأسطورية لهاري بوتر والرجل العنكبوت والرجل الوطواط وحروب النجوم والمستقبل والذكاء الاصطناعي، والجوائز العالمية لهذا النوع من الأفلام شاهد على هذا التأثير العالمي. أما عن أساطيرِ الألعاب الإلكترونية في السعودية فهي رائجة بشكلٍ مذهل وتنمو بوصفها من أهم القطاعات الاقتصادية، فالإحصائيات تشير إلى أنَّ هناك 23 مليون لاعب في المملكة، بنسبة 67% من عدد السكان يمارسون الألعاب الإلكترونية مقارنةً بـ66% في الولايات المتحدة، وتبلغ استثمارات الألعاب الإلكترونية بالمملكة 16.8 مليار ريال في عام 2018، ومن المتوقع أن تصل إلى 25.5 مليار ريال بحلول 2030(صحيفة مال عدد 9 أكتوبر 2023). ويستحيل أن تخطئ العينُ ذلك الإقبالَ الكبير في مواقع التواصل الاجتماعي لأي خرافة حول شخصيات المشاهير، وكيف تنسج الأساطير لزيادة المتابعين والمعلنين وجني الأرباح المليونية، وهنا تُخلق الأسطورة من العدم، وليس من خلال جلبها من القِدم.


رابعا: لماذا نحتفي بالأسطورة الشعبية ونعودُ إليها؟ الجواب باختصار:"لأننا كائناتٌ تبحث عن معنى" (انظر: تاريخ الأسطور، كارين ارمسترونغ، ترجمة وجيه فانصوه، الدار العربية للعلوم ناشرون 2008، ص8)، حاجتنا للمعنى والتفسير لكلِّ التساؤلات التي ترتطم في أعماقنا حول الوجود والمعاد والكون والإنسان لا تنتهي، وقد جاءت الأديان السماوية خصوصًا الإسلام للإجابة عنها بيقين إيماني، ولكن تبقى هناك العديد من التساؤلات حول الحكمةِ من تلك الظواهر، والعلّة وراءَ الكثير من الأحداث، فتستجيب النفسُ للبحث عن تلك الأجوبة ولو من خلال تفسيرات رمزية لا تمتّ للعلم والواقع المادي بصلة، لكنها قد تشبع الوجدان بجواب روحي يستمد منه الإنسان حاجاته للشغف ويثير وجدانه للقبول، ونحن في السعودية لا نغرق كثيرًا في البحث عن تلك التفسيرات الأسطورية، بسبب القناعات الدينية الراسخة، والوعي العقدي المكتسب من تعليمنا ومنابرنا الإرشادية.
لكن في الآداب والفنون هناك انجذاب لتوظيف تلك القصص الخرافية لأغراض شعرية أو قصصية، نلحظ ذلك عندما يمر الراكبُ بسياراته بعقلة الصقور في منطقة القصيم ويرى جبل "طميّة" وقصة عشقها المتيم لجبل "قطن" ولشدة عشقها وحبها له أرادت الانقلاع إليه؛ فمنعها جبل عكاش، وضربها برمحه فاستقرت في موضعها المعروف الآن، ولأجل هذه الحكاية الأسطورية أنَشد الكثير من الشعراء قصائد تحكي هذه القصة، ومنهم سمو الأمير الشاعر خالد الفيصل في أبياتٍ له:
انتزع قلبي مثل نزعة طميّه.. يوم هزّ العشق راسية الجبال
ساقها سوق المبشر للمطيّه.. لين عاشت مع قطن حلم الليال
وصارت أسطورة هوى بين البريه.. وصار مجراها مثار للخيال
(من مقال لـ د.تنيضب الفايدي في صحيفة الجزيرة 12 سبتمبر 2023)، أو تداعي أساطير جبل منعاء لمن يشاهده مارًا بتنومة، متذكرًا حكايةَ ملك الجن وحراسته لكنوز الجنّ وموت كلِّ من يصعد إليه، وأسطورة الصعاليك ومعاركهم مع الغول حاضرة كلما تذكّر العابر من جنوب المملكة نحو مكة، وسرح به الخيال مع السليك بن السلكة ومواجهاته لفرسان مذحج وتغلب، وكيف استطاع الفرار بسرعة تتجاوز سرعة الخيل.
هذه القصصُ لا تبقى في الذاكرة دون هبوطٍ اختياري واضطراري من العقل إلى أرض الواقع الحيّ والخيال الخصب في مملكتنا الثرية بالتاريخ والفن والحضارات.


وختامًا: ليعذرني القارئ في بسط الحديثِ حولَ المفهوم كمعنى وتداخلاته مع الدين، ولكنها مقدمات ضرورية لم يحسم فيها الخلاف، ولم تشبع بالبحث اللائق بأهميتها، أما واقع الأسطورة في ثقافتنا السعودية فهو واقع متداخلٌ ذكرت بعضه وصرفت النظر عن الكثير، ولا تزال ثقافة الأسطورة حاضرةً في وعينا الجمعي؛ رغم اعتقادنا الجازم بعدم صدقها، ولكن طبيعتها المنسابة في علوم الانسان والأدب والتاريخ تجعل لها هذا الحضور المهم؛ مهما طال الزمان وعَظُم في حقها النكران.

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة