الدراسات
ديسمبر 2023

الجدران الناطقة: دراسة لظاهرة الكتابة على الجدران في مدينة الرياض

على الرغم من انتشار هذه الظاهرة، وبعدها التاريخي إلا أنّ الدراسات فيها قليلة، ولعل ذلك أهم البواعث لدراسة هذه الظاهرة، بالإضافة إلى الانتشار الواسع للكتابة على الجدران في عصرنا، وتنوع أشكاله. وقد كانت الغاية من هذه الدراسة استجلاء مظاهر الكتابة على الجدران في مدينة الرياض، وذكر دوافعها وبعدها الثقافي والاجتماعي، وواقعها بين القبول والرفض، ورحلة الكتابة على الجدران، وتطورها عبر التاريخ.

مصدر الصورة:
قد تواجه بعض المشاكل في التصفح عبر الجوال عند وجود جداول في المنشور، ولتصفح أفضل ؛ ننصحك بالتصفح عبر شاشة أكبر أو التصفح بعرض الشاشة.

المقدمة

إن كان " للحيطان آذان " <span class="tooltip">(1)<span class="tooltiptext">انظر ثمار القلوب، للثعالبي، مطبعة الظاهر، مصر،1908، ص268.</span></span> كما سار في المثل، ‏فإن لسانها أقدم، وبيانها أفصح، وهي تجيد الكلام أكثر من إجادتها الاستماع؛ فطالما نطقت بأصوات الناس عبر التاريخ، فكانت صراخ الذي لا يستطيع الصراخ، وتنهيدة العاشق الذي لا يقوى على الكتمان، وكانت الجدران ميدانًا لشكوى الغرباء، وظرف الظرفاء، وعبث الأشقياء، اختلفت مشاربهم وثقافتهم وعصورهم وشخصياتهم وطبقاتهم وأدوات كتابتهم لكن وحدهم هذا الجدار الذي تسمّروا أمامه، فمنهم من يحفر وينقش، ومنهم من أشعل ناره وأمسك بفحمته، حتى نصل إلى عصرنا الذي شهد تنوعًا كبيرًا في أدوات الكتابة على الجدران، فهذه الظاهرة سلسلة امتدت عبر عصور طويلة، منذ أن عرف الإنسان أن هذا الفعل شكل من أشكال الخلود، فالكتابة والنقوش هي التخليد الأول للصوت البشري.

ولأن الكتابة على الجدران ظاهرة متنوعة، وتختلف من بلد لآخر، ومنطقة لأخرى؛ جاءت حدود هذه الدراسة في المملكة العربية السعودية -مدينة الرياض-.

أما المنهج المتبع في هذه الدراسة فسيكون المنهج الوصفي التحليلي، مع الإفادة من المناهج الأخرى كالمنهج التاريخي، والمنهج النفسي.

وعلى الرغم من انتشار هذه الظاهرة، وبعدها التاريخي إلا أنّ الدراسات فيها قليلة، ولعل ذلك أهم البواعث لدراسة هذه الظاهرة، بالإضافة إلى الانتشار الواسع للكتابة على الجدران في عصرنا، وتنوع أشكاله.

وقد كانت الغاية من هذه الدراسة استجلاء مظاهر الكتابة على الجدران في مدينة الرياض، وذكر دوافعها وبعدها الثقافي والاجتماعي، وواقعها بين القبول والرفض، ورحلة الكتابة على الجدران، وتطورها عبر التاريخ.

الكتابة على الجدران عبر التاريخ

الجدران هي موطن الكتابة الأول، ووسيلة التعبير الأولى للإنسان القديم، فهي التي احتضنت حروفه ومشاعره، وإن كان من الطبيعي أن تسبقها الرواية إلا أنها هي النص الثابت القديم الذي لم يعتره الخلل والزلل والزيادة والنقص والتبديل، فهي موجودة كما وضعها صاحبها ونقشها، وسجلت ظاهرة الكتابة على الجدران حضورها عبر التاريخ، فلا تكاد تخلو أُمّة وحضارة من هذه الظاهرة، ولعل النقوش الخالدة في الجدران وآثار الحضارات القديمة أعظم دليل على ذلك، فقد كتب المصريون القدامى على جدران المعابد <span class="tooltip">(2)<span class="tooltiptext"> Peden, A. J. (2001). The Graffiti of Pharaonic Egypt: Scope and Roles of Informal Writings (c. 3100-332 B.C.). Germany: Brill.</span></span>، واستخدموا الكتابة التصويرية في المقابر <span class="tooltip">(3)<span class="tooltiptext"> انظر الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للتوزيع والنشر، السعودية، ط2،1419 ج19 ص134.</span></span>، وفي حضارات الشرق الأوسط نقش السومريون والبابليون بالكتابة المسمارية قبل تطور الحروف الهجائية، ونجد حضورًا للكتابة الهيروغليفية في مصر القديمة، وعند الحيثيين الذين تواجدوا بما يُعرف بتركيا الآن، وقبائل المايا والأزتك الهندية الذين عاشوا بأمريكا الوسطى <span class="tooltip">(4)<span class="tooltiptext"> انظر السابق، ج26، ص323.</span></span>، وقبل أن يكتشف المصريون الورق البردي كانت الجدران هي سجلاتهم وأماكن كتابتهم، فمن الكهوف وصخور الجبال، إلى جدران المعابد، إلى المقابر، جال الإنسان القديم مسجلًا وصاياه وحكمه ومشاعره مشكلًا بذلك التدوينة الأولى، ولا تكاد تخلو حضارة من ظاهرة الكتابة على الجدران، تقل وتكثر حسب التطور الحضاري وظروف عيشهم، فكأنّ الإنسان يبحث عن الخلود من خلالها، وإيصال رسالة خالدة؛ فالنقش قاوم العصور ولا زال خالدًا باقيًا يُدرس ويعتنى به، وله أهميته البالغة.

لم يمنع اكتشاف الورق وتوفره، وتطور أدوات الكتابة، من تطور الكتابة على الجدران عبر التاريخ، وتنوع استخدامها، فاستخدمت لتزيين القصور، وأماكن العبادة، وللحضارة العربية والإسلامية في ذلك فنون لا تضاهيها فيها حضارة أخرى، كما سيأتي معنا.

فإذا انتقلنا بعد ذلك للعصور المتأخرة، سنجد أنه كان لظاهرة الكتابة على الجدران دور بارز في رفض الأفكار؛ فقد قاوم مارتن لوثر استبداد الكنيسة الكاثوليكية، وكان يخط بعض أطروحاته وأفكاره على جدران وأبواب كنيسة فيتنبرج بألمانيا <span class="tooltip">(5)<span class="tooltiptext"> انظر مارتن لوثر مقدمة قصيرة جدًا، سكوت إتش هندريكس، ترجمة كوثر محمود محمد، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي ص34. ومجلة الفيصل العددان 495- 496 يناير- فبراير 2018م.ص17.</span></span>، ليؤسس بعد ذلك للمذهب البروتستانتي، وكذلك استخدمتها بعض الشعوب للتعبير عن الموقف السياسي، والاحتجاج على أوضاعهم، ودعمهم لتيار معين، والتعريض بآخر، كما كانت موطنًا لدعم الأحزاب السياسية والترويج لها، وإيصال الرسائل للناس، ونشر الأفكار، كما أنها استخدمت للإعلانات التجارية، وحضر فيها كذلك العبث وتشويه الأماكن العامة، فالجدار هنا يأخذ أهميته من المكان الذي هو فيه، والشخص الذي يقف أمامه وما يخطه عليه.

العرب والكتابة على الجدران

عَرف العرب عبر تاريخهم الكتابة على الجدران، خاصة في حواضرهم أكثر من بواديهم، فالبادية في صحاريهم خلف المرعى والمياه لم تتوفر لهم أسباب المعرفة والكتابة، خلاف الحاضرة، ومن أقدم النقوش التي وصلت إلينا (ترنيمة الشمس أو القصيدة الحميريّة) ويعود تاريخها إلى القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، وقد وجدت على مقربة من قصر كبير من أهم قصور آل معاصر في اليمن، وكُتبت بخط المسند، والنص عبارة عن أنشودة دينية وابتهالات <span class="tooltip">(6)<span class="tooltiptext"> انظر نقش القصيدة الحميرية أو ترنيمة الشمس (صورة من الأدب الديني في اليمن القديم) ليوسف محمد عبد الله– مجلة النقائش والكتابات القديمة في الوطن العربي -إدارة الثقافة- المنظمة العربية للتربية والثقافة- تونس 1988م ص106 – 127.</span></span>.

وقد أشار بعض أدباء العرب إلى هذه الظاهرة، وأفردوا لها مصنفات، ومن الذين أشاروا إليها إبراهيم البيهقي - رحمه الله - فيقول: "وكانوا يجعلون الكتاب نقرًا في الصخور ونقشًا في الحجارة، وحلقةً مُركَّبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الناتئ، وربما كان هو المحفور، إذا كان ذلك تاريخًا لأمرٍ جسيم، أو عهدًا لأمرٍ عظيم، أو مَوعظة يُرْتجى نفعها، أو إحياء شرف يريدون تخليد ذِكره، كما كتَبوا على قُبَّة غُمْدَان <span class="tooltip">(7)<span class="tooltiptext"> غُمْدَان بضم أوله، وسكون ثانيه، قصر عظيم في اليمن، قيل: إنه من بناء سليمان عليه السلام، وقيل غير ذلك، انظر معجم البلدان لياقوت الحموي، مصر 1325هـ (4/210).</span></span>، وعلى باب القَيروان، وعلى باب سَمرقنْد، وعلى عمود مأرب، وعلى ركن المُشَقَّر <span class="tooltip">(8)<span class="tooltiptext"> المُشَقَّر: بضم الأول وفتح الثاني وتشديد القاف، هو حصن قيل: إنه في البحرين من بناء طسم، وقيل غير ذلك. انظر المصدر السابق (5/134).</span></span>، وعلى الأبْلَق الفَرْد <span class="tooltip">(9)<span class="tooltiptext"> الأَبْلَق: هو حصن السموأل بن عادياء اليهودي، انظر المصدر السابق (1/75).</span></span>، وعلى باب الرُّهاء <span class="tooltip">(10)<span class="tooltiptext"> الرُّهاء: مدينة بالجزيرة انظر المصدر السابق (3/106).</span></span>، يَعمدون إلى المواضع المشهورة، والأماكن المذكورة، ويَضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، وأمنعِها من الدروس، وأجدر أن يراه مَنْ مرَّ به، ولا تُنسَى على مرور الدُّهور" <span class="tooltip">(11)<span class="tooltiptext"> المحاسن والمساوئ، لإبراهيم بن محمد البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420هـ، ص10.</span></span> والحقيقة أن هذا النص في غاية الأهمية لذكره شواهد من التاريخ للكتابة على جدران القصور، وأسباب الكتابة، وأهميتها.

وبغض النظر من صحة رواية أن المعلقات عُلّقت على أستار الكعبة، فهذه الرواية تشير إلى شيوع الكتابة على الأبنية في ذلك العصر، وقد وجدنا المعاهدات قد كُتبت وعلقت على أستار الكعبة، كما في صحيفة حصار الشِّعب <span class="tooltip">(12)<span class="tooltiptext"> حصار فرضته قريش على الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في شِعب أبي طالب. انظر البداية والنهاية، لابن كثير، دار هجر، ج4، 1997، ص236.</span></span>.

ثم نجد الكتابة على الجدران تأخذ منحى متقدمًا جدًا بعد تطور الحضارة الإسلامية، وكثرة المباني والقصور، وشيوع الكتابة وانتقال الحضارة من الجانب الشفاهي إلى الجانب الكتابي، فنجد أنهم جمعوا "بين فنّ الشعر وفنّ الخط وفنّ العمارة" <span class="tooltip">(13)<span class="tooltiptext"> حياة الشعر في نهاية الأندلس، لحسناء طرابلسي ص454.</span></span>لزيادة الجمال والسحر فيها.

ويشير محمد الوشاء (ت 325 هـ) لهذه الظاهرة وولوع أدباء عصره وظرفائهم بها، بل إنه عقد فصلًا لما كتب على الجدران والإيوانات وغيرها من مظاهر الحياة. <span class="tooltip">(14)<span class="tooltiptext"> انظر الظرف والظرفاء لأبي الطيب محمد بن أحمد الوشاء، تحقيق فهمي سعد، دار عالم الكتب، ط١، ١٤٠٧هـ (ص307 _ 308).</span></span>

ومن أهم ما ألفه العرب في هذا الباب كتاب (أدب الغرباء) لأبي الفرج الأصفهاني، الذي خصصه لشعر الاغتراب، ومواطن كتابته التي من أهمها الجدران، وقد ذكر الكثير من الشواهد المهمة التي تعبر فعلًا عن ظاهرة الكتابة على الجدران، ونقل لنا أشكالًا من كتابتهم، وأماكنها، وأدوات الكتابة، وشخصيات الكتاب، وأسباب الكتابة، ليشكل لنا صورة واضحة عن هذه الظاهرة في عصره.

ونجد تنبيهًا لهذه الظاهرة وشيوعها أيضًا عند السخاوي (ت 643) فيقول: " وقد كتب الناس على الجدران، والقبور، وفي الأحجار من المواعظ ما لا يكاد يحصى ... ورأيت على سارية ببعض أطراف مصر، بمدينة قد تداعت أرجاؤها، وتقوّض بناؤها، وجلا سكانها:

رعى الله من يدعو لنا في طريقنا  ::  بصنعٍ جميلٍ والرجوع إلى مصرِ

ومن قد رأى ما قد كتبناه دارسًا  ::  أعاد عليه بالمداد أو الحبرِ" <span class="tooltip">(15)<span class="tooltiptext"> الوسيلة إلى كشف العقيلة لعلم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي، تحقيق: مولاي محمد الإدريسي الطاهري، مكتبة الرشد، ط2، 1424هـ، ص4.</span></span>

حال الكتابة على الجدران في العصر الحديث

في العصر الحديث حصلت نقلة نوعية في الكتابة على الجدران، فالزمن كله تغير؛ والإنسان تغيرت همومه وأفكاره، وتغيرت أدوات كتابته، وتنوعت طرق تعبيره عن ذلك، فكانت الجدران مهربًا لبعض الأفكار التي لا يستطيع صاحبها إعلانها، وحضنًا للمشاعر التي لم يتجرأ صاحبها على البوح بها، وتسجيلًا لحضور المهمشين، ولم تخل من عبث البعض وتشويههم للجدران، والممتلكات العامة.  

وظهر في هذا العصر أيضًا "فن الجرافيتي Graffiti" ويعود أصل هذه الكلمة Graffiti   إلى اللغة الإيطالية من الكلمة غرافيو graffio  والتي تميل في معناها إلى الكتابة العشوائية، ربما يمكننا القول بأنها أقرب إلى "الخربشات" أو "الشخبطة" في الكلام الدارج . <span class="tooltip">(16)<span class="tooltiptext">. https://dailyitalianwords.com/italian-word-for-writing-on-walls-graffiti/</span></span>

فأخذ فن الجرافيتي هذه الظاهرة نحو منحى جمالي وإبداعي متفرد، فأصبحت الجدران المهملة المتداعية آسرة للناظرين عندما عبر أمامها مبدع، وأصبح كثير من المبدعين والرسامين يتسابقون لخط هذه اللوحات، ونشر فنّهم أمام المارّة، وصارت هذه الجدران معرضًا للوحات، وبابًا من أبواب الشهرة.

وعلى الرغم من أن الرسم على الجدران ليس بالشيء الحديث إلا أنّ ما حصل من طفرة فيه بداية الستينات الميلادية في الولايات المتحدة جعل "الجرافيتي" فنا حديثا، ساعد في ظهوره وانتشاره طبيعة وقضايا العصر، فكان هذا الفن من أهم أساليب الرفض للعنصرية والفقر والتهميش، ووجد كثير من المهمشين في الجدران موطنًا لبعث الصرخات، ولذلك نجده ارتبط في البداية بفن (الرّاب) الذي يعد أيضًا شكلًا من أشكال الرفض والتعبير <span class="tooltip">(17)<span class="tooltiptext"> انظر الأسلوب الجرافيتي في التصوير التشكيلي السعودي المعاصر، أ. نوال العلوي، د. مها السديري، المجلة العربية للنشر العلمي، العدد31، 2021م ص355.</span></span>.

وكانت البداية في فيلادلفيا في الولايات المتحدة، عندما استيقظ الأهالي على عبارة مكتوبة على جدار في الحي: "كورن بريد يحب سينثيا" ولم يعلم أن هذه العبارة ستكون انطلاقًا لملايين العبارات والرسومات بعده، و (Corn Bread) هو لقب لداريل مكراي (Mccray Darryl)، وبعدها انطلق يكتب في كل مكان: القطارات، والأنفاق، وناطحات السحاب، ولم يسلم مكان من كتابته لهذا اللقب حتى على ظهور الحيوانات؛ فعندما أشاعت الصحافة خبر وفاته، اقتحم حديقة الحيوان بفيلادلفيا وكتب على الفيل " كورن بريد حيّ ".

وقد أوقفته الشرطة بتهمة التخريب والتعدي على الممتلكات العامة وبعدها شاع اسمه، وفتح الباب لمن جاء بعده، ليصف نفسه بعد ذلك بأنه فنان الشارع

(Today, I’m a street artist) <span class="tooltip">(18)<span class="tooltiptext"> Peter Crimmins - Cornbread, the first graffiti artist, shows new work at Philadelphia gallery -2019 - https://whyy.org/articles/cornbread-the-first-graffiti-artist-shows-new-work-at-philadelphia-gallery/ .</span></span>.

وساعدت موجة الإنترنت واجتياحها للعالم في تواصل الفنون، وسهولة رحلتها، وانتقالها من عالم لآخر، ولم تدخل في جدراننا إلا متأخرة بعدما توفرت الظروف المناسبة من الاحتكاك بالثقافات الأخرى، وترك مساحة للشباب المبدعين في إظهار مواهبهم من خلال الفعاليات الرسمية، وتقليد الآخرين لهم، وانتشارها ضمن الديكورات كما نجده في بعض المقاهي.

ومما يجدر الإشارة له هنا الجدران الافتراضية التي زاحمت الجدران الواقعية، فقد أصبح لكل شخص جداره الإلكتروني الخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يخط به ما يشاء ويعلق عليه ما يريد، وما النبذة التعريفية ((Bio، في مواقع التواصل، والتغريدة المثبتة في تويتر إلا جدار إلكتروني نقش فيه صاحبه ما يمثله ويعبر عنه، أو شعاره الخاص في الحياة، ونظرته لها.

مقارنة بين الماضي والحاضر

المتأمل في ظاهرة الكتابة على الجدران بين الماضي والحاضر يقف على عدة فروقات بينهما، ساعد بهذه الفروقات اختلاف الزمن والهموم والأفكار والأدوات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكتابة قديمًا لم تكن تتاح للجميع، ولا يتقنها الكثير، فقد كان المتعلمون هم الفئة الأقل، بالإضافة إلى عامل الانتقاء وبقاء وتدوين الأفضل؛ لأن ذلك مما يؤثر في المقارنة بين هذه الأزمنة المتباعدة، ويمكن أن نُجمل هذه المقارنة في النقاط التالية:

1-           مستوى الكتابة:

إن الناظر في مستوى الكتابة على الجدران بين الماضي والحاضر يجد أن هناك فروقًا كثيرة ومستوى متباينًا بينهما؛ فقد قلت الجودة، وكثرت الأخطاء الكتابية، وضعف مستوى الإبداع، بينما كانت كتابة القدماء زاخرة بالوصايا والحكم، ونوادر الأشعار، نجد الكتابة في العصور المتأخرة ضعيفة ركيكة قليلة الإبداع في أغلبها، أما ما يكون مميزًا منها مؤخرًا فهي مقتبسة من عبارة مشهورة، أو بيت شعر معروف، وأغنية ذائعة، ويكفي أن ينظر المرء فيما كتبه الأصفهاني من نوادر في "أدب الغرباء" وأن ينظر إلى الجدران أثناء سيره ليرى مدى الفرق في مستوى الكتابة.

فمن ذلك ما قاله أبو الفرج: "وقرأتُ على حائط مسجد الجامع بدسكرة الملك <span class="tooltip">(19)<span class="tooltiptext"> دسكرة الملك: كانت قرية في طريق خراسان، وكان هرمز بن سابور يكثر المقام فيها فسميت بذلك. انظر: معجم البلدان، ج2 ص575.</span></span>: حضر فلان بن فلان الصرويّ في سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة وهو يقول:

سقى الله أيام التواصل غيثهُ  ::  وردَّ إلى الأوطان كل غريبِ

فلا خير في دنيا بغير تواصلٍ  ::  ولا خير في عيشٍ بغير حبيبِ" <span class="tooltip">(20)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص33.</span></span>

وإذا تجاوزنا عذوبة الأبيات وسهولتها، فإن من اللافت أيضًأ توقيع صاحبها، واختيار الجامع للكتابة؛ فكأنه يريد من المصلي إذا قرأ: "وردَّ إلى الأوطان كل غريبِ" أن يقول: آمين.

ويجسد أحدهم الحيرة في قلبه، التي أوقعته بين نارين، حين يقف على مفترق طرق، بين همّه وهواه، فيكاد يتمزق بينهما، فيصرخ للجدار كاتبًا:

وبقيتُ بين عزيمتين كلاهما  ::  أمضى وأنفذُ من شَبَاةِ سِنانِ

همٌّ يشوّقني إلى طلب العُلا  ::  وهوًى يشوّقني إلى الأوطانِ <span class="tooltip">(21)<span class="tooltiptext"> التذكرة الحمدونية لمحمد بن الحين بن محمد بن علي، تحقيق إحسان عباس، بكر عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 1996م (8/124).</span></span>

وكانت الكتابة القديمة فيها شيء من الطول رغم صعوبة الكتابة وقلة الأدوات وقتها، فتكون تارة نثرًا في أسطر، وتكون قصيدة؛ وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني قصيدة في 23 بيتًا كتبها أحدهم على حائط قبّة الخضراء في قصر الخليفة أبي جعفر المنصور <span class="tooltip">(22)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص80_81.</span></span>، ويجمع الكاتب أحيانًا بين النثر والشعر، يساعد في حفظها جمال العبارة، وحسن الكلام، وطرافة الموضوع وغرابته، ومن ذلك ما كتب على كنيسة الرّها في العراق " حضر فلان بن فلان وهو يقول: من إقبال ذي الفطنة، إذا ركبته المحنة انقطاعُ الحياة، وحضور الوفاة، وأشد العذاب تطاول الأعمار، في ظلّ الإدبار، وأنا القائل:

ولي همة أدنى منازلها السّها  ::  ونفس تعالى في المكارم والنّهى

وقد كنت ذا حال بمروَ قريبة  ::  فبلّغت الأيامُ بي بيعةَ الرُّها

ولو كنت معروفًا بها لم أُقِمْ بها  ::  ولكنني أصبحتُ ذا غربةٍ بها

ومن عادة الأيام إبعادُ مصطفى  ::  وتفريقُ مجموعٍ وتنغيصُ مُشتهى

فاستحسنت النثر والنظم وحفظتهما." <span class="tooltip">(23)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص36_37.</span></span>
فأبقاها حسنها في القلب قبل الكتاب، كما أبقاها نقشها في الجدار.

وإذا نظرنا في بعض الموضوعات المشتركة بين الماضي والحاضر ليكون الحكم أكثر دقة وإنصافًا، تتجلى لنا الفروق الكبيرة والبون الشاسع في مستوى الكتابة، حيث تتفوق الكتابة في الماضي شكلًا ومضمونًا.

وأما الحديث عن الأخطاء اللغوية والإملائية، وإن كان لا سبيل للمقارنة بينها وبين الماضي بالمشاهدة المباشرة إلا أن جودة ما نقل إلينا، ونوع الطرح، وقرب زمانه من عصور الفصاحة، وشخصيات الكتّاب، كلها تصب في صالح الكتابة القديمة، يقابلها في ذلك كثرة الأخطاء اللغوية والإملائية التي تقابلنا عندما نتجول في الطرقات ونرى الكتابة على الجدران.

2-           الكاتب:

كانت الكتابة قديمًا أقل بكثير من الكتابة في عصرنا، فإذا وضعنا بالحسبان قلة المتقنين لها قديمًا، وبساطة الأدوات، يتضح لنا هذا الفرق، مع طغيان للكتابة في عصرنا؛ لوفرة الكتّاب والأدوات والبنيان، وهذه المفارقة انعكست على الكاتب نفسه، فوجدنا فروقات كبيرة بين الكتّاب قديمًا وحديثًا ومن أبرزها شخصية الكاتب، فإذا طالعنا الكتب القديمة تمر علينا شخصيات لها مكانتها في المجتمع نقشوا على الجدران، فهناك الخلفاء، والأمراء، والوزراء، والشعراء، والكتّاب، وهؤلاء كلهم اختفوا من الكتابة على الجدران في عصرنا، بل تغيرت النظرة لذلك تمامًا، وحلّ محلها نظرة دونية لمن يمارس هذه الظاهرة في الأماكن العامة.

ومن الخلفاء الذين كتبوا على الجدران الخليفة المنصور؛ فقد اقتبس أبيات للبيد بن ربيعة وكتبها على قصر عبدويه <span class="tooltip">(24)<span class="tooltiptext"> السابق، ص23.</span></span>، وكذلك كتب المأمون على كنيسة بالشام عنما جال بها وأراد الخروج منها قال لبعض أصحابه " إن من شأن الغرباء في الأسفار، ومن نزحت به الدار عن إخوانه وأترابه، إذا دخل موضعاً مذكوراً، ومشهداً مشهوراً، أن يجعل لنفسه فيه أثراً، تبرُّكاً بدُعاء ذوي الغُربة، وأهل التقطُّع والسياحة. وقد أحببْتُ أن أدخل في الجملة، فابْغِ لي دواةً. فكتب على ما بين باب المذبح هذه الأبيات:

يا معشرَ الغُرباءِ رَدّكُمُ  ::  ولقيتُمُ الأخبارَ عن قُرْبِ

قلبي عليكم مُشْفِقٌ وَجِلٌ  ::  فشفا الإلهُ بحِفْظِكم قلبي

إنّي كتبتُ لكيْ أساعدكمْ  ::  فإذا قرأتم فاعرفوا كتبي " <span class="tooltip">(25)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص23.</span></span>

وكتب الواثق على بنيان بسُرَّ مَن رأى. <span class="tooltip">(26)<span class="tooltiptext"> السابق، ص24.</span></span>

ويسوق الأصفهاني خبرًا طويلًا عن الشاعر أبي عبد الله الواسطيّ ابن الآجريّ ينتهي بالكتابة على دير بواسط، ويهمنا أوله حيث يسلط الضوء على بعض شخصيات الكتّاب في ذلك العصر: " كنتُ أعاشرُ جماعة من أهل الظرف وأولاد الرؤساء ونجتمعُ على الشراب دائماً فدعانا فتًى منهم إلى العُمْر <span class="tooltip">(27)<span class="tooltiptext"> العمر بضم العين لفظة سريانية تعني البيت أو المنزل، والمراد به هنا الدير. انظر الديارات، لأبي فرج الأصفهاني، تحقيق: جليل العطية، بيروت،1991، ص121.</span></span> الذي في أسفلِ مدينة واسط، ويُعرف العُمْرُ بعُمْرِ سفر يشوع..." <span class="tooltip">(28)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص26.</span></span>

وحين ننظر إلى هؤلاء الكتّاب وغيرهم الكثير، ونطالع ما كتب على جدراننا وفي العصور المتأخرة نلاحظ الفرق بين شخصيات الكتّاب ومكانتهم، ففئة الشباب والمراهقين تكاد تكون الغالبية العظمى من كتّاب الجدران، يوحي بذلك ما يكتب على المدارس، والأماكن العامة، وموضوعات العبارات، وأسلوبها، إلا ما نستثنيه من بعض الشباب المبدعين في الخط وفن الجرافيتي، الذين نشطوا بكثرة مؤخرًا، وكان لهم حضور لافت في الفعاليات، والمهرجانات، فهم فئة تنتمي للثقافة من الخطاطين والرسامين، ومارسوا إبداعهم على الجدران ضمن الفعاليات الرسمية التي تنظمها الوزارات، والهيئات، كما شاهدنا في فعالية "جداريات الخط العربي" التي نظمتها وزارة الثقافة السعودية <span class="tooltip">(29)<span class="tooltiptext"> https://engage.moc.gov.sa/yoac/tracks/311. </span></span>.

3-           الموضوعات:

وإذا نظرنا إلى الموضوعات فسنجد أنه اشترك في بعضها العصر القديم مع العصر الحديث، وانفرد كل عصر ببعض الموضوعات كذلك، فهناك ما يندثر من الموضوعات القديمة، وما يُستحدث من موضوعات جديدة، فطبيعة العصر، وهموم الإنسان وأفكاره كل ذلك يتغير، ومن الموضوعات الحديثة في العصور المتأخرة التي أحدثتها الاضطرابات في بعض مناطق العالم، ولم يعهدها القدماء، الكتابات السياسية، وترشيحات الأحزاب، وقضايا الحروب والانتفاضات، فقد أصبحت الجدران عبارة عن إعلام، ومسرح لعرض ونشر الأفكار، وكان الجدار شاهدًا على الحروب والصراعات السياسية.

وكذلك استُخدمت الجدران للترويج والإعلانات، وشعارات العصبية سواء الطائفية، أو القبلية، وحضر التعصب الرياضي، وهناك موضوعات تميل للإسفاف أكثر، وكل ذلك لم يحضر قديمًا في موضوعاتهم، إما لعدم وجود الموضوع وظهوره متأخرًا، أو لضعف الكتابة؛ حيث كانت في الأوساط المثقفة والمتعلمة أكثر، ولم يتوفر ذلك لعامة الناس، أو تجاوز بعضها من يدون ويسجل ذلك لعدم أهميتها.

ونجد الجدران في العصور القديمة كانت تتناول موضوعات متفرقة، تكاد لا تتكرر، فهي نادرة بطبيعة الحال حتى عند القدماء، وبالتأكيد لم تعهدها الجدران في عصرنا، ومن هذه الموضوعات رثاء الحيوانات، فمن ذلك عندما مات حمار أحدهم، فدفنه وبنى عليه قُبة وكتب عليها:

ألا يا حماراً كان للحُمْر سابقاً  ::  فأصبح مصروماً على السيب في قبرِ

جُـزيتَ مـع القـتِّ الشعيرَ مُغَرْبلاً  ::  وأسـكنك الرحمن في جنَّة الحُمْرِ <span class="tooltip">(30)<span class="tooltiptext"> انظر أدب الغرباء، ص46.</span></span>

وهناك موضوعات يلتقي فيها القديم مع الحديث كالغزل، والفراق، وشكوى الزمان، وذكر الموت، والمواعظ، والإرشاد، والغربة، وإن كان الطرح قديمًا أعمق وأكثر جودة وتنوعًا، وموضوع الغربة هو الأكثر بروزًا وتداولًا قديمًا، ولا يقترب منه موضوع آخر، بل كان يُعد ظاهرة للغرباء، حتى عنون الأصفهاني كتابه المخصص لهذه الظاهرة بـ "أدب الغرباء" فالغرباء هم أهل هذا الفن عنده، والشواهد أغلبها لهم، وقد مرّ معنا سابقًا أن المأمون عندما كتب على الكنيسة أشار إلى أن هذا من عادة الغرباء، ويكثر في الكتاب وصف أصحاب الكتابة بالغرباء، وبعدما يسوق بعض الأشعار والأخبار تجده يقول مثلًا: " فعُلم أن بعض الغرباء المنقطع بهم كتبها" <span class="tooltip">(31)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص46.</span></span> وفي موضع آخر: " فعُلم أن بعض السيّاح، وذوي الغربة والأسفار، قد بلغ به الدهر إلى ذلك الموضع، فأجاب بما وجد" <span class="tooltip">(32)<span class="tooltiptext"> السابق، ص78.</span></span>  كل ذلك يوحي لنا بمدى ارتباط هذه الظاهرة بالغربة والاغتراب.

4-           الدوافع:

دوافع الكتابة على الجدران تختلف من شخص لآخر، ومن عصر لآخر، ولكن الشخص الذي يقف أمام الجدار يحدوه دافع معين ليخط ما يخطه، قد يكون دافعًا مهمًا، وقد يكون غير ذلك، لكن المؤكد هناك ما حركه للكتابة، ويشترك العصر القديم مع الحديث ببعضها:

*     البث والشكوى: فهناك صدور ممتلئة بالهموم، لم تجد من يحتويها إلا الجدران، وهناك أصوات لم يسمعها إلا الحائط، كالذي كتب: "خرجت هاربًا من الإملاق، وتضايق الأرزاق، فعُدل بي عن السداد، وتهت في البلاد، وبلغ بي الدهر إلى هذا القصر:

ألا ليت شعري متى ينقضي  ::  عنائي وتُكشف عني المحنْ

شريدًا طريدًا قليل العزاء  ::  سحيقَ المحلِّ بعيدَ الوطنْ " <span class="tooltip">(33)<span class="tooltiptext"> السابق، ص69.</span></span>

ويمتد هذا الدافع إلى عصرنا، فالجدران تغص بالشاكين الذين يبثون أحزانهم عليها، ويختلف تعبيرهم عن ذلك؛ إما بكتابة مباشرة بسيطة، أو اقتباس من الأغاني الحزينة، أو بالتعبير الساخر.

الرياض- 1445هـ  |  على قد ما توفي تراهم يخونون  ::  وعلى قد ما تعطي تراهم يجحدون

*    التزيين والزخرفة: حاول الإنسان منذ القِدم تحسين مكان معيشته شيئًا فشيئًا،

وتزيينه بأبسط الوسائل المتاحة، وقد كانت النقوش القديمة التي في جدران الكهوف والمعابد، شكلًا من أهم أشكال التزيين والزخرفة، حتى لو لم توضع لهذا الشيء في أساسها، ‏إلا أن الإنسان فهم ذلك بعدها وعدها أحد أهم أشكال الزينة والزخرفة، فكانت في القصور والمباني فأصبحت من أهم الدوافع للكتابة على الجدران، وبقيت آثار القصور القديمة شاهدة ‏على ذوق أصحابها حتى أصبحت الكتابة والزخرفة فنًا أساسياً لتزيين القصور القديمة، ‏ومن يطالع قصور الأندلس كقصر الحمراء مثلًا يجد ذلك واضحًا جليا، وقد زين السلطان أبو الحجاج يوسف الأول قاعة السفراء وهي مخصصة لمجلس السلطان واستقبال الوفود، <span class="tooltip">(34)<span class="tooltiptext"> انظر قصر الحمراء ديوان شعري منقوش على الجدران لصبيح صادق، مجلة الفيصل-العدد (٣٥٣) ذو القعدة ١٤٢٦ هـ ص119.</span></span> ببعض أبيات لسان الدين ابن الخطيب كُتبت على طاقاته ومنها:

" فُقْتُ الحِسانَ بحُلّتي وبِتاجي  ::  فهَوَتْ إليّ الشُّهْبُ في الأبْراجِ

يَبْدو إناءُ الماءِ فيّ كَعابِدٍ  ::  في قِبْلَةِ المِحْرابِ قامَ يُناجي" <span class="tooltip">(35)<span class="tooltiptext"> ديوان لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق محمد فتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1989م (1/147).</span></span> ‏

هذا الفن الذي طغى قديمًا، خفت بريقه في العصر الحديث، وقلَّ ولم ينعدم، فلا زالت بعض القصور تزينها الكتابات، ودخل (الجرافيتي) أيضًا في التزيين في العصر الحديث، ‏فزُينت ‏كثير من الشوارع والأماكن به، فكان حضوره قويًّا في فعاليات هيئة الترفيه، وجداريات البوليفارد سجلت شهرة كبيرة <span class="tooltip">(36)<span class="tooltiptext"> .https://www.gea.gov.sa/oasis-2/</span></span> كما أن بعض مقاهي القهوة استخدمت هذا الفن في تزيين جدرانها.

الرياض- 1445هـ  | صورة لمقهى طلبات السيارات drive through

*    الخوف: ‏من ضمن الدوافع التي تدفع الشخص للكتابة على الجدران، الخوف من الإفصاح عن رأيه، فيلجأ للكتابة سرًّا؛ فيبوح للجدران بطريقةٍ تسلم عليه نفسه ويقول ما فيها، وهذا الدافع كان موجودا قديمًا وإن كان أقل بكثير من العصر الحديث، ‏ومن ذلك ما كتبه أحد الروافض على جدران مجلس عبد الله بن عبد الحق:

"من كان يعلم أن الله خالقهُ  ::  فلا يحب أبا بكر ولا عمرا

وانصرف، يقول عبدالله بن عبدالحق: فأُلقي عليّ من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل، فجعلت مكان (يحب): (يسب) ورجعت إلى مجلسي، فلما جاء وجده كما أصلحته، فجعل يتلفت يميناً وشمالاً، كأنه يطلب من صنع ذلك، فلما أعياه الأمر انصرف" <span class="tooltip">(37)<span class="tooltiptext"> نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، (5/256-257).</span></span>.

‏وقد انفجر هذا الدافع وتوسع في العصر الحديث فشمل جوانب كثيرة في العالم كله، وبأساليب متنوعة لم يكن يعهدها الأوائل، فمع وفرة الأدوات، وكثرة التحزبات والفرق، والأحداث السياسية في العالم، كان الجدار ‏يمثل لسانًا للناس، وللخائفين على رقابهم من بث أفكارهم، فكتبوا عليه الأفكار التي عجزوا عن الإفصاح عنها.

ولم تشهد جدران المملكة العربية السعودية ذلك -ولله الحمد- للاستقرار السياسي، والأمن الدائم، وحب الشعب لحكومته وقادته ورموز دولته، بل حملت جدرانها عبارات الحب والولاء، وصور القادة، فهذا ما يميّز ويزّين جدران المملكة العربية السعودية.

أحد المنازل في مدينة الرياض- 1445هـ

أحد المنازل في مدينة الرياض- 1445هـ

*    الرغبة في ترك أثر: ‏هذا الدافع يحمله الناس في نفوسهم، فالكثير يحب أن يترك أثرًا على الجدران لتتناقله الألسن مدة طويلة، ‏وهناك من يحب أن يسجل بعض المواقف، وهذا نجده عند القدماء أوضح لاسيما الغرباء منهم، فهو لا يعلم هل تسعفه الأيام فيرجع إلى أهله؟ وهل ينال مناه؟ وإلى متى تستمر غربته؟ ‏فتغريه هذه الرغبة في ترك الأثر، لعل الأعين تقع عليها فيكون شيئًا مذكورًا بعدما أخذه الاغتراب وشرده، فتلح عليه نفسه لترك أثر في المكان، فهذا رجل من الشام اجتاز الإسكندرية ومر على بنيانها فيقول: " مررت بموضع أعلاها، فيه خطوط الغرباء، والمجتازين، قديمة، وحديثة، وإذا في جملة ذلك موضع مكتوب بحبر بيّن: يقول محمد بن عبد الصمد: وصلت إلى هذا الموضع في سنة سبعين ومائتين، وصلت إليه بعد نصب وشقاء، وملاقاة ما لم أحسب أني ألقى، ولم أحب الانصراف عنه إلا بعد أن يكون لي به أثر، فقلت هذه الأبيات وكتبتها فيه:

شرّدتني نوائبُ الأيّامِ  ::  ورمتني بصائبات السهامِ

فرّقت بين من أحب وبيني  ::  ويحَ قلبي المتيم المستهامِ

لهفَ نفسي على زمانٍ تقضّى  ::  فكأني رأيتُهُ في المنامِ" <span class="tooltip">(38)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص30-31.</span></span>

‏أما في العصر الحديث فهناك الذكريات والتواريخ العابرة، البسيطة، التي يحاول صاحبها ترك الأثر فيها، وغالبًا ما نجد شيئًا من ذلك في الأسفار على بعض الجسور، والمحطات، يسجل صاحبها أنه مرّ من هنا، وربما تخيّل في نفسه وقوف الناس عليها، وحديثهم عنها، فجال في نفسه ما جال من نشوة ذلك، وإن كانت ذكريات بسيطة ليس فيها من الإبداع ما للقدماء، ولكن يحمل بعضها في طياته هذا الامتداد للمشاعر القديمة.

مدينة الرياض- 1445هـ  |  جعلك تشتاق لي وتلقاني توفيت

مدينة الرياض- 1445هـ  |  ادعوا لي أتزوجها..

والبواعث إلى الكتابة على الجدران كثيرة من الصعب حصرها؛ لأن دوافع البشر كثيرة ومتنوعة، ورأيت أن هذه أهمها، وهناك الكثير غيرها كالذكريات، والرموز، والإعلان والترويج، وإيصال الرسائل، والرد على المكتوب.

وقد تتداخل الدوافع أحيانًا، وينفرد بعض الدوافع في عصر معين، ورغم تباعد العصور فقد ظل خيط الدوافع يربط بين الإنسان في مختلف عصوره.

مدينة الرياض- 1445هـ

مدينة الرياض- 1445هـ

5-           أماكن الكتابة:

لم تختلف أماكن الكتابة القديمة كثيرًا عن العصر الحديث، فلا زالت الجدران هي نفسها؛ ولكن طغيان المباني في العصور المتأخرة، وتنوعها وكثرتها أظهرت لنا بعض الاختلافات اليسيرة، ولعل أبرز أماكن الكتابة قديمًا: جدران الكهوف، وصخور الجبال، وجدران المعابد، وجدران القصور والمباني، والخانات، والكنائس والأديرة، والمساجد، والسدود، والحصون، والمقابر، بينما نجد في عصرنا أن أكثر الأماكن كتابة هي جدران المدارس، والجدران القريبة منها.

ومن الطبيعي أن نجد اختلافًا واضحًا في أماكن الكتابة بين العصور القديمة والحديثة ناتجًا عن تغير الزمن، وتنوع المباني واختفاء بعضها وظهور أخرى، ولكن أوجه الاتفاق في الأماكن هي الأغلب.

" وحدثني شيخ قال: قرأت على حائط مقبرة سيبويه مكتوبا.

رحلَ الأحبةُ بعد طول توجعٍ       ونأى المزارُ فأسلموك وأوجعوا

تركوك أوحشَ ما يكون بقفرةٍ       لم يؤنسوك، وكربة لم يدفعوا" <span class="tooltip">(39)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء ص33.</span></span>

سور مقبرة في مدينة الرياض- 1445هـ

سور مقبرة في مدينة الرياض- 1445هـ

سور مقبرة في مدينة الرياض- 1445هـ

ويمكننا أن نضع ما كتب على الخانات قديمًا بجوار ما كتب على محطات الطرق، واستراحات السفر، وأماكن العابرين، فالخانات من أبرز أماكن الكتابة قديمًا وفيه شجن المرتحلين، وعذابات الهاربين ومعاناتهم، من ذلك ما وُجد على جدار أحد الخانات في بلاد السند: "يقول عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم، انتهيت إلى هذا الموضع، بعد أن مشيت حتى انتعلت الدماء، وأنا أقول:

عسى مشربٌ يصفو فيروي ظماءَةً  ::  أطال صداها المشربُ المتكدِّرُ

عسى بالجنوب العاريات ستكتسي  ::  وذي الغلباتِ المستذلّ سينصُرُ

عسى جابرُ العظمِ الكسيرِ بلطفِهِ  ::  سيرتاحُ للعظمِ الكسيرِ فيجبرُ

عسى صوراً أمسى لها الجورُ دافنًا  ::  يُتاح لها عدلٌ يجيءُ فتظهرُ

عسى الله، لا تيأس من الله إنهُ  ::  يهونُ عليهِ ما يجلّ ويكبرُ" <span class="tooltip">(40)<span class="tooltiptext"> الفرج بعد الشدة، القاضي التنوخي، تحقيق: عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، ج5، ص93.</span></span>

6-           أدوات الكتابة:

قد طال أدوات الكتابة ما طالها من الاختلاف عبر الزمن، ومما لا يخفى حجم التطور والتقدم الذي طرأ على الإنسان، وما كان بيد الواقف أمام الجدار قديمًا، لا يعد شيئًا أمام من يكتبون الآن، وحتى ما نظنه مشتركًا بين الماضي والحاضر، كالنقش وبعض الأصباغ، فإن أدواتهم القديمة وجودتها لا تذكر مع ما توفر في العصور المتأخرة.

وإذا نظرنا فيما كُتب قديمًا، نجد بعض الأدوات المستخدمة في الكتابة ومنها:

*    السكين: ويستخدم كأداة للنقش والحفر، وقد طاف الواثق بقصور سرّ من رأى... فلما انتشى أخذ سكيناً لطيفًا وكتب على حائط البيت:

ما رأينا كبهجة المختارِ  ::  لا ولا مثل صورة الشهّارِ

مجلسٌ حُفّ بالسرور وبالنرجس والآس والغنا والبهارِ

ليس فيه عيبٌ سوى أن  ::  ما فيه سيفنيه نازل الأقدار" <span class="tooltip">(41)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء ص25، ومعجم البلدان، ياقوت عبد الله الحموي البغدادي، تحقيق: فريد الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت،1971، ج5، ص84.</span></span>

*    الفحم: وهو من الأدوات المتوفرة قديمًا، والوصول له سهل يسير، ولا يحتاج لطول وقت كالنقش والحفر؛ لذلك نجده كثيرًا في مرويات الغرباء العابرين، ولا عيب فيه إلا أنه لا يدوم طويلًا. "وروي لنا عن إسحاق بن عبد الله قال: كنت في خدم أبي جعفر، فدخل قصر عبدويه وأنا معه، فقال: أعطني فحمة. فناولته، فكتب هذا الشعر على الحائط: المَرءُ يَأمُلُ أَن يَعيشَ   وَطولُ عَيشٍ قَد يَضُرُّه..." <span class="tooltip">(42)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء ص23</span></span>    

*    الحبر والأقلام: وهي أدواتهم في الكتابة على الورق نقلوها للجدران، وكانت الدواة والمداد تصحب البعض في أسفاره ولا تفارقه، حتى إذا وجد في نفسه دافعًا للكتابة على الجدران استخدمها، وقد حكى الخبز أرزي<span class="tooltip">(43)<span class="tooltiptext"> محمد بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري شاعر غزل كان يخبز خبز الأرز بالبصرة فلقب بالخبز أرزي. انظر معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى 2002، كامل الجبوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ج6، ص38-39. </span></span>قصة عن الشيخ الذي رأى الغلام المتأدب وكان معه دفتر ومحبرة ثم حاوره حتى قام الغلام " فكتب على ساج العبَّارة بالقلم الذي كان في يده هذين البيتين:

أُساءَلُ عن حالي ويُرثى لمنظري  ::  حبيبي، وهذا في هواك قليلُ

سأصبرُ حتى ترعوي وترقّ لي  ::  وينهج من طرْق الوصالِ سبيلُ" <span class="tooltip">(44)<span class="tooltiptext"> أدب الغرباء، ص75.</span></span>

وهذا شاب بشيراز لقي جماعة فتجاذبوا أطراف الحديث، وطال بهم المجلس، ليُختَم اللقاء عندما " لاحت عبرته فأخرج محبرة من كمه، وقلمًا، وكتب على صخرة كانت تليه:

قد كنتُ حِلْفَ سرورٍ  ::  بقرْبكُم وحبورِ

حتَّى تناقص مالي  ::  واختلَّ باقي أموري" <span class="tooltip">(45)<span class="tooltiptext"> المصدر السابق ص96-97.</span></span>

أما في عصرنا، فالأدوات كثيرة جدًا ومتنوعة فهناك، الأصباغ والدهانات، والأقلام، وبخاخات الألوان التي تكاد تطغى مؤخرًا، فهي أكثر ما يكتب به الشباب الآن على الجدران.

مغسلة للسيارات في مدينة الرياض -1445هـ

الرياض -1445هـ

مظاهر أدب الشوارع في المملكة العربية السعودية

المدقق في أدب الشوارع في المملكة العربية السعودية يجده متنوعًا، ولا نستطيع أن نطلق عليه حكمًا واحدًا يشمله كله، لأنه يتفاوت بالكم والموضوعات من منطقة لأخرى، فلا بد من النظر فيه جيدًا حتى نتوصل لحكم دقيق عليه، فلو نظرنا لمدينة الرياض سنجد الكتابة تكثر في أحياء وتقل في أحياء أخرى، ويرجع سبب ذلك للكثافة السكانية للحي، وللمستوى المعيشي والثقافي، كما أنه هنالك أحياء تقل فيها المدارس الحكومية، وأحياء تكثر فيها المدارس، وجدران المدارس الحكومية وما حولها أكثر الجدران كتابة لدينا، كما أننا لا يمكن أن نغفل هنا نشاط البلديات، وإدارة المدارس في مسح الكتابة على الجدران، وهذا أيضًا يتفاوت من مكان لآخر.

وقد رأيت الكتابة على الجدران في المملكة العربية السعودية بالمجمل تنقسم لثلاثة أقسام:

1-  الكتابة العابثة: وهي ما نخرجها من الأدب بالكلية، فليس فيها شيء من الإبداع ولا حسن التعبير، وأغلبها عبارات هابطة، وبعضها يحتوي على التعصب القبلي أو الرياضي، وأغلب من يكتبها من المراهقين ولذلك تكثر في المدارس وجدرانها.

2-  الكتابة الجيدة: وفي هذه الكتابة نرى بعض الأدب، إما من خلال إبداع الكاتب وهو قليل، وإما من خلال ما ينقله من عبارات شائعة، وأبيات، وفي هذا القسم تكثر كلمات الأغاني، وأبيات الغزل، والعبارات الحزينة، والأدب الساخر، كما تحضر الحكمة والنصح والتوجيه فيها، ولكن لا يسلم هذا القسم من بعض الانتقادات التي تطاله بسبب كتابته على الممتلكات العامة، ورداءة الخط، وكثرة أخطائه الإملائية واللغوية، رغم أن بعض الكتابات تميزت بجمال الخط، ولكن نسبتها قليلة.

الرياض -1445هـ

يشير لبيت الشاعر محمد بن فطيس:

ليه المطر بالذات ريحه وصبّه  ::  كنه رسولٍ بين الأحباب بالذات.

والشاعر محمد بن فطيس من الشعراء الرقيقين الذي اكتسب شعبية كبيرة؛ بسبب شعره العاطفي السهل القريب من الناس عامة، كما أنه أول الفائزين بمسابقة (شاعر المليون) ولذلك لا غرابة في ذكر أبياته على الجدران لشهرتها.

أغنية: الفنان عبادي الجوهر. كلمات: عبد الرحمن بن مساعد آل سعود. الرياض -1445هـ

تدرين وأدري بنفترق  ::  تدرين قلبي بيحترق

وهي من الأغاني التي جمعت شهرة الكاتب ومكانته، مع المكانة الفنية لعبادي الجوهر، في موضوع يدور حول الفراق الذي يكثر وجوده في الجدران .

الرياض-1445هـ

دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ  ::  وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ

وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي  ::  فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ

البيتان يُنسبان للإمام الشافعي -رحمه الله- <span class="tooltip">(46)<span class="tooltiptext"> ديوان الإمام الشافعي، تحقيق نعيم زرزور، ومفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1984م، ص26.</span></span> وهما من أكثر أبيات الحكمة حفظًا وانتشارا، لسهولتهما وحسن جرسهما، ونراهما هنا بخط جميل، وكتابة سليمة قل نظيرها.

الرياض -1445هـ  |  طلال مدّاح.

وقد يختفي المبدعون خلف الجدران القديمة في الأحياء البسيطة، كهذه الجدارية للفنان الكبير طلال مداح، وهو يمسك العود.

3-  الكتابة الإبداعية: وهي كل ما أنشأه الكتّاب والرسامون من لوحات فنية وخطية إبداعية، وقد ظهر عدة مبدعين في هذا المجال في المملكة العربية السعودية، تميزوا بالجداريات، سواء بالخط والكتابة أو بالجرافيتي، وكانت لهم أنشطة بارزة، ولأهمية هذا الفن، وقيمته الجمالية والإبداعية، اهتمت به المؤسسات، والوزارات، فأطلقت عدة مبادرات بالتنسيق مع البلديات، لنشر مثل هذا الإبداع، وتزيين الشوارع بلوحات جمالية لافتة، ودعم المبدعين، وهواة هذا الفن.

ومن الأمثلة على هذا القسم: مبادرة وزارة الثقافة في عام الخط العربي التي أقامتها في عدة مناطق <span class="tooltip">(47)<span class="tooltiptext"> . https://engage.moc.gov.sa/yoac/tracks/311</span></span>.

فعاليات وزارة الثقافة في مدينة الرياض -1445هـ

 وكذلك الجداريات التي زينت مواسم الرياض، فما أحدثته هيئة الترفيه من دعم الشباب المبدعين لعرض إبداعهم وجدارياتهم، عبر مواسمها، يعتبر قفزة في أدب الجدران في المملكة العربية السعودية، وفي فن الجرافيتي على وجه الخصوص، حتى أصبحت بعض الجداريات بمثابة أيقونة للمكان، (كلوحة البوليفارد) لـنورة السعيدان، التي تعد أشهر لوحة في بوليفارد الرياض.

وفي مهرجان (اوتلت) 2022م، في الرياض، كان للجداريات حضورها، فخصصت هيئة الترفيه أماكن للمبدعين عرضوا فيها أعمالهم <span class="tooltip">(48)<span class="tooltiptext"> . https://engage.moc.gov.sa/yoac/tracks/311</span></span>.

ولانجذاب كثير من الناس لهذه الجداريات، وحبهم لأدب الجدران، أصبحت تدخل في الديكورات، وتزيين الأماكن والمحلات، فكان الاهتمام بها حاضرًا في أماكن كثيرة كأماكن القهوة والشاي، والمطاعم، وصالات الألعاب، والمغاسل، وغيرها.

الرياض -1445هـ

الأبعاد الثقافية والاجتماعية للكتابة على الجدران في المملكة العربية السعودية

البعد الثقافي: من التعريفات المختصرة للثقافة عند مالينوتسفكي: "هي ذلك الكل الذي يشتمل على الأدوات والمواثيق التنظيمية للمجتمع والأفكار والفنون والمعتقدات والعادات" <span class="tooltip">(49)<span class="tooltiptext"> نقلاً عن: أحمد بن نعمان، هذي هي الثقافة، دار الأمة للطباعة، الجزائر، ط،1 ،1996، ص22.</span></span> وبهذا المنظور العام للثقافة نجد أنه لطالما كانت الجدران ناطقة بالثقافة، ومدونة للأفكار والمعرفة منذ القدم، وقد كانت الكتب والدفاتر حين لا كتاب ولا دفتر، لذلك حملت وما زالت الكثير من الأبعاد الثقافية، وسنتطرق لأبرز هذه الأبعاد في المملكة العربية السعودية.

1-  الزينة: عرفنا عبر تاريخنا أهمية الزخرفة والنقش وتزيين الجدران بالخطوط العربية، ولا زالت هذه الزينة حاضرة في المملكة العربية السعودية في المساجد وبعض القصور، كما أن الناس توسعوا في الزينة فأصبحت اللوحات الجدارية حاضرة، في الأماكن والفعاليات، وكثير من المطاعم ومقاهي القهوة سعى لمثل هذه الزينة.

2-  الشعر: يكاد يكون الشعر هو أكثر الأشكال الأدبية حضورًا في الكتابة على الجدران في المملكة العربية السعودية، لأهمية الشعر وحضوره القوي في البيئة السعودية، والشعر الشعبي هو الغالب على الجدران، ويقل وجود الشعر الفصيح في الأماكن العامة.

الرياض -1445هـ  |  عسى الله يعوض القلب يوم السنين شحاح  ::  ويضحك حجاجٍ مرثع الوقت في قشه

والبيت يدل على ذوق عالي وفهم، فكلمة مثل: شحاح، وحجاج، ومرثع، قل استخدامهما بين الشباب مؤخرًا، وتكاد تكون اندثرت عند الصغار.

3-  الأغاني: كلمات الأغاني حاضرة في الجدران، ولم نضعها مع الشعر لكثرتها، ولأنها تأتي كثيرًا بعبارات بسيطة مقتبسة من الأغنية، وأحيانًا تكون كلمة أو كلمتين.

الرياض -1445هـ   |   رغم جرحه كنت أسامح كنت أبيه...

إن الحزن يستوطن الكثير من الجدران، ولذلك نجد الأغاني الحزينة أكثر حضورًا.

4-  الثقافة العالمية: نتيجة للتواصل الثقافي العربي والعالمي، نجد تأثير هذا التواصل موجودًا على بعض الجدران، ويتضح أكثر من خلال الرسوم الجرافيتية، فهناك جداريات لبعض الفنانين، وبعض شخصيات المسلسلات العالمية.

الرياض -1445هـ   |   وهنا نرى بعض شخصيات مسلسل البروفيسور الإسباني الذي نال شهرة واسعة بين الشباب.

البعد الاجتماعي: "مجالات الدراسات الواقعية تتضمن-عادة- المجال الزمني، والمجال الجغرافي، والمجال البشري، وكل مجال يتحدد بالمادة التي يجمعها الدارس" <span class="tooltip">(50)<span class="tooltiptext"> هتاف الصامتين، سيد عويس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،2013، ص45.</span></span> ولذلك من المهم في هذا البعد أخذ المجال الزمني والجغرافي بعين الاعتبار في مثل هذه الدراسة، فالقضايا الاجتماعية تختلف من وقت لآخر، ومن دولة لأخرى، ومن مدينة لأخرى، وحتى الأحياء تختلف من حي لآخر في مدينة كبيرة ومتنوعة كمدينة الرياض موطن هذه الدراسة.

وفي البعد الاجتماعي نرصد بعض القضايا التي احتجبت خلف الكتابات والرسوم الجدارية، والتي يستمد فيها الشباب موضوعاتهم من حياتهم الاجتماعية، فهذه الكتابات تعكس طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه الشباب، فقد تجلت عدة موضوعات في هذا الجانب وهي:

1-   التوعية الاجتماعية: وتنوعت هذه التوعية وأشهرها النصح، والإرشاد الديني، والتذكير بأعمال الخير، فنجد الكاتب من خلال الجدران اتخذ منبرًا لتذكير الناس وتوجيه النصح لهم، فكثرت مثل هذه العبارات: (الصلاة عماد الدين، استغفر الله، وما توفيقي إلا بالله، صل على محمد)

الرياض -1445هـ

الرياض -1445هـ

2-   الفقر: يعرف لويس كوسر (منظر أمريكي معاصر) الفقر على أنه "ما يصِم المجتمع حياة جماعة اجتماعية معينة على أنها تعيش ضمن دائرة الفقر" <span class="tooltip">(51)<span class="tooltiptext"> علم المشكلات الاجتماعية، العمر خليل معن، دار الشروق، ط،1 ،2008 ص.190-189.</span></span>

وهذا وإن لم يكن تعريفًا محددًا للفقر إلا أنه يشير إلى أن الفقر يختلف من مكان لآخر، فما يرونه في مجتمع على أنه فقير قد يكون غنيًا في مجتمع آخر، وعلى هذا لا قيمة تذكر لدخل الفرد، فربما يُعد المرء فقيرًا في مجتمع، ويرى نفسه في هذه الدائرة، وهو بعيد عنها في التعريف الديني، والواقع الحقيقي للفقر، وهذا ما يفسر لنا بعض عبارات شكوى الحال والفقر ممن لا ينطبق عليه مصطلح فقير، كما أنه يمكننا أن نلحظ بعض عبارات الشكوى من الحال تكثر في الأحياء الأكثر كثافة، وأقل دخلًا من الأحياء الأخرى.

وقد يتخذ الشاب أسلوبًا ساخرًا للتعبير عن حالته أحيانًا

الرياض -1445هـ

فيقول: "الحلم شاورما والواقع عدس" فيرفع من مستوى أحلامه وأمانيه ويكني "بالشاورما" عن ذلك، بينما واقعه هو الفقر والحرمان ويكنّي "بالعدس" عن هذا، وهو طعام الفقير، وقد جاء في الأمثال الشعبية العربية "العدس لحم الفقير... " <span class="tooltip">(52)<span class="tooltiptext"> معجم الأمثال الفلسطينية، حسين علي لوباني، مكتبة لبنان، ناشرون، 1999، ص511.</span></span>

3-   الشكوى والتوجع: تضمنت بعض الجدران عبارات تفيض بالألم الذي لم يستطع الكاتب أن يفضي به إلا للجدران، ونتيجة لبعض القضايا الحساسة التي يجد صاحبها صعوبة بالبوح بها في محيطه، والرسائل التي يعرف أنها لا تصل لمن يريده أن يسمعها، لجأ لكتابة ذلك على الجدران؛ ليفرغ ما في نفسه، ولعل هذه الرسالة يُكتب لها الوصول والبقاء، فحضرت العبارات العاطفية، والعتاب، والخذلان، على الكثير من الجدران في المملكة العربية السعودية.

الرياض -1445هـ   |   جعلك تشتاق لي وتلقاني توفيت..

الرياض -1445هـ   |   والله إن الفراق محد يطيقه وفي غيابك سبب للصدر ضيقه

وتختلف شكوى وانكسارات أهل العشق على الجدران، فهناك المتألم الذي لا يريد لآخر أن يذوق ما ذاقه من كأس الحب، فيصرخ من خلال الجدران قائلًا:

الرياض -1445هـ   |   لا تقع في الحب

الرياض -1445هـ   |   لا تقع في الحب

حتى إذا انتقلنا لجدار آخر نجد الذي لم يستوعب سبب الرحيل بعد، فيسأل بألم:

الرياض -1445هـ   |   ليش رحتي ؟.

ثم نتجول في المدينة فنجد الذي توصل للقاعدة المعروفة التي غابت عن باله وقتًا، فيواسي نفسه في لحظة حزن:

الرياض -1445هـ   |   محد يدوم

الرياض -1445هـ    |   لا أحد يبقى لأحد

كما نلحظ في هذه الصورة التأثر برسومات وملصقات الأجهزة والبرامج الحديثة التي أصبحت تنوب عن الكلمات أحياناً.

وسترى أيضًا وأنت تتجول ذلك الذي لا يهمه من رحل، إما حقيقة وإما مكابرة ولذلك تكثر مثل هذه العبارات التي يتبعونها الراحلين:

الرياض -1445هـ   |   طز فيك  ..

4-   الصداقة: كانت الصداقة وما يدور حولها حاضرة في تراثنا العربي، ولا زال لها شأن كبير في المجتمع السعودي، وموضوع كهذا كان حاضرًا على الجدران، إما أن يكون الكاتب مفتخرًا بصديقه معتزًّا بصداقته، وإما معاتبًا له.

الرياض -1445هـ   |   يا خاطري لا تضيق دام الكفو حي

الرياض -1445هـ   |   صديق صدوق صادقني بكذب  ::  وصديق كذوب صادقني بصدق

الكتابة على الجدران بين القبول والرفض

ظاهرة الكتابة على الجدران من الظواهر التي اختلف فيها الناس بين القبول والرفض، ولكل فريق نظرته الخاصة، فهناك من يقبل هذه الظاهرة، ويرى أنها فن لا يخلو من الإبداع، وهناك من يرى أنها تشويه، وعبث في الممتلكات العامة، وفي نظري أن كل فريق معه جزء من الحقيقة؛ فالجدران العامة تشهد الكثير من التشويه والتخريب الذي طالها، وفيها الكثير من الكتابات التي خلت من المعنى واللفظ الجميل، وخلت من حسن الخط الذي يشفع لبعض الكتابات أحيانًا ويجعلها مقبولة، وقد رأينا بعض المدارس لجأت للكتابة بنفسها على جدرانها، فكتبت بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأسماء الله الحسنى، وشيئًا من الحكم؛ لتحد من الكتابة العابثة، ولعل ذلك الذي يريد الكتابة يرى الآيات فيخجل من التشويه، وكتابة بعض العبارات السيئة، أو أنه لا يجد مكانًا للكتابة كافيا.

سور مدرسة في مدينة الرياض -1445هـ

سور مدرسة في مدينة الرياض -1445هـ

وهناك قسم آخر من الكتابة على الجدران العامة فيه بعض الجماليات، إما على مستوى العبارة، أو جمال الخط، والرسم، وهذا وإن حوى أدبًا وحُسنًا إلا أنه يقع فيه الاختلاف أيضًا بسبب كتابته في الأماكن العامة، فالخلاف ليس على جماليته، بل على مكان كتابته.

أما الكتابة الأدبية والفن الجرافيتي في الأماكن المخصصة لها، والتي كانت تحت مظلة الوزارات والهيئات، فهي محط إجماع على روعتها، وحسنها، ولذلك نجد الكثير يؤيد أن تخصص لأدب الجدران أماكن ومساحات يمارس المبدعون فيها هواياتهم، ويزينون جدران الشوارع، ويرون أن لهذا الفن قيمة فنية، ومناظر جمالية، بالإضافة إلى ترك مساحة مفتوحة يظهر فيها المبدعون للأضواء، بعدما كانوا مختفين خلف الجدران.

الخاتمة والتوصيات

قدمت هذه الدراسة نبذة تاريخية عن ظاهرة الكتابة على الجدران، مروراً بمراحلها التاريخية وتطورها، وصولاً إلى العصر الحديث، وحاولت الدراسة استنطاق الكتابة على الجدران في المملكة العربية السعودية في مدينة الرياض، والمقارنة بينها وبين الماضي، والنظر في أنواعها ودوافعها، وبعدها الثقافي والاجتماعي، ووضعها بين القبول والرفض.

ومن النتائج التي توصلت إليها الدراسة أن أكثر الأماكن كتابة في الرياض المدارس الحكومية، والجدران القريبة منها، كما أنها تكثر في الأحياء التي فيها كثافة سكانية.

الكتابات الجيدة قليلة مقارنة بغيرها، والمتأمل يرى أن فن الجرافيتي سيأخذ مكانة أكبر في السنوات القادمة، ولعل فعاليات الوزارات أخذته لمنحى جمالي وتنافسي، وأضفت عليه طابعًا رسميًا، وزاد الاهتمام والوعي لدى أصحابه.

أما أبرز التوصيات والمقترحات:

*    تكثيف الدراسات الميدانية لظاهرة الكتابة على الجدران.

*    أخذ كل قسم على حدة ودراسته بصورة مستقلة.

*    ترك مساحة للمبدعين بالتعاون مع البلديات فهناك الكثير من المبدعين المغمورين.

*    توعية طلاب المدارس والمراهقين وتوجيه طاقاتهم الكتابية في الفعاليات، وإبعاد حصص الفنية عن الحصص التقليدية لتواكب تطور الفنون.

*    التعاون بين المدارس والجهات المنظمة للفعاليات.

*    تكثيف التوعية والإرشاد حول الكتابات العابثة على الجدران.

المراجع

-       أدب الغرباء، لأبي الفرج الأصفهاني، نشره صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد- بيروت، ط١ ١٩٧٢م.

-       الأسلوب الجرافيتي في التصوير التشكيلي السعودي المعاصر، أ. نوال العلوي، د. مها السديري، المجلة العربية للنشر العلمي، العدد31، 2021م.

-       البداية والنهاية، لابن كثير، دار هجر، 1997.

-       التذكرة الحمدونية لمحمد بن الحين بن محمد بن علي، تحقيق إحسان عباس، بكر عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1996م.

-       ثمار القلوب، للثعالبي، مطبعة الظاهر، مصر،1908.

-         ديوان الإمام الشافعي، تحقيق نعيم زرزور، ومفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1984م.

-         ديوان لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق محمد فتاح، دار الثقافة، الدار البيضاء - 1989م

-       الديارات، لأبي فرج الأصفهاني، تحقيق: جليل العطية، بيروت،1991.

-        الظرف والظرفاء لأبي الطيب محمد بن أحمد الوشاء، تحقيق فهمي سعد، دار عالم الكتب، ط١، ١٤٠٧هـ

-       علم المشكلات الاجتماعية، العمر خليل معن، دار الشروق، ط،1 ،2008.

-       الفرج بعد الشدة، القاضي التنوخي، تحقيق: عبود الشالجي، دار صادر، بيروت.

-       قصر الحمراء ديوان شعري منقوش على الجدران لصبيح صادق، مجلة الفيصل-العدد (٣٥٣) ذو القعدة ١٤٢٦ هـ.

-       مارتن لوثر مقدمة قصيرة جدًا، سكوت إتش هندريكس ترجمة كوثر محمود محمد، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي. ومجلة الفيصل العددان 495- 496 يناير- فبراير 2018م

-       المحاسن والمساوئ، لإبراهيم بن محمد البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420هـ.

-       مجلة النقائش والكتابات القديمة في الوطن العربي -إدارة الثقافة- المنظمة العربية للتربية والثقافة- تونس 1988م.

-       معجم الأمثال الفلسطينية، حسين علي لوباني، مكتبة لبنان، ناشرون، 1999،

-       معجم البلدان، ياقوت عبد الله الحموي البغدادي، تحقيق: فريد الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت،1971.

-       معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى 2002، كامل الجبوري، دار الكتب العلمية، بيروت.

-       الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للتوزيع والنشر، السعودية،1419.

-       نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد التلمساني، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت

-        هتاف الصامتين، سيد عويس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،2013.

-       هذي هي الثقافة، أحمد بن نعمان، دار الأمة للطباعة، الجزائر، ط،1 ،1996.

-       الوسيلة إلى كشف العقيلة لعلم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي، تحقيق مولاي محمد الإدريسي الطاهري، مكتبة الرشد، ط2، 1424هـ.

المراجع الأجنبية:

-       Peden, A. J. (2001). The Graffiti of Pharaonic Egypt: Scope and Roles of Informal Writings (c. 3100-332 B.C.). Germany: Brill.

المراجع الإلكترونية العربية والأجنبية:

-       https://dailyitalianwords.com/italian-word-for-writing-on-walls-graffiti./

-       Peter Crimmins - Cornbread, the first graffiti artist, shows new work at. Philadelphia gallery -2019 - https://whyy.org/articles/cornbread-the-first-graffiti-artist-shows-new-work-at-philadelphia-gallery/

-       https://engage.moc.gov.sa/yoac/tracks/311

-       https://www.gea.gov.sa/oasis-2/

-       https://engage.moc.gov.sa/yoac/tracks/311

-       https://engage.moc.gov.sa/yoac/tracks/311

اطّلع على منشورات أخرى

تم تسجيلك .. ترقب ضوء معرفة مختلفة!
عذرًا، أعد المحاولة